من منكم لا تشده مناظر ومحاولات الإغراء من ذكور الطيور لإناثها في الوثائقيات التي تقدمها القنوات الفضائية. في مكان ما على حواف غابة أو جدول مائي أو غدير، تبدأ تجمعات الطيور في مواسم التزاوج. الذكور في جانب، غالباًً في الوسط، والإناث في الجانب الآخر في الظل تحت الأشجار.
الإناث تراقب عن بعد ببراءة مصطنعة، وبدون مشاركة في الحفلة، كأن الأمر لا يعنيها، لكنها تدرك أن الأمر برمته يدور حولها ومن أجلها.
يبدأ أحد الذكور بالرقص، يجعل ريشه ينتفش وينكمش، ويفرد جناحيه وذيله، يحجل ويتمايل، يبزبز ويتناقز ويكركر ويقرقر، ويستعرض كل ما عنده من مواهب القوة والجمال. ما يلبث أن يلحق به ذكر آخر ثم آخر، ثم تتحول الحلبة إلى دبكة فوضوية من الرقص، تنتهي بانقضاض الذكور على بعضها نقراً ودفعاً ورفساًً، وكل هذا والإناث تراقب من بعيد كأنها غير مكترثة، متصنعة عدم الاهتمام.
في النهاية تهرب بعض الطيور الذكور من الحلبة، أو تنسحب بهدوء لأنها أدركت أن المنافسة هذه المرة خاسرة، فإلى اللقاء في الحفلة القادمة.
بعد ذلك يتم التزاوج، تتقدم الإناث واحدة بعد أخرى، وتتقرب كل واحدة إلى من استهوى قلبها، ويتم التزاوج لإنتاج الجيل المقبل من الطيور.
الأمور لا تتم عشوائياًً، هناك استراتيجيات منذ البداية، لكن الذكور فقط تستخدم كل أنواع التكتيك والبهرجة الممكنة والاستراتيجيات لاجتذاب الإناث. الإناث لا يؤدين دوراًً واضحاًً، لكن لهن الاختيار في النهاية، وبدون المشاركة في الإحجال والتمايل والانتفاش والانكماش والبزبزة والفزفزة.
عندما يوشك موسم التزاوج على النهاية، لا يبقى من الذكور سوى الأقل إبهاراً، ومن الإناث الأقل إقداماًً، وقد يتزاوجون فينتجون أجيالاًً ضعيفة، وقد لا يفعلون.
الموضوع على الأقل في أهدافه البيولوجية يشبه ما يحدث في عالم البشر. الرجل يفني عمره في استعراض مواهبه وقدراته للفوز بالأنثى، والأنثى الجريئة تبادر إلى اختيار من يدخل قلبها قبل الآخر، لكن ذلك يتم في المجتمعات المتمتعة بحق الاختيار.
في المجتمعات الحمائية يتم فرض الذكر على الأنثى، وعلى الطرفين تحمل النتائج.
وجه الاختلاف الجوهري هو أن مجتمع الطيور مجتمع مفتوح، محكوم فقط بالهرمونات والغرائز الفطرية لتحسين النسل. المجتمعات البشرية العاقلة محكومة بما هو أعقد من ذلك، بالشرائع الدينية والقوانين الوضعية والأعراف والتقاليد.
عندما تختار البطة والحمامة والعصفورة والشيهانة شريكها، يتم ذلك باتخاذ القرار الشخصي، وعلى الطرفين تحمل النتائج والمشاركة في بناء العش والحضانة حتى التفقيس وتوفير الغذاء حتى بلوغ النسل سن الاعتماد على النفس. المسألة تقوم على مبدأ الاختيار والتراضي منذ البداية. لذلك يندر في عالم الحيوان أن تترك الأنثى فراخها لتطير مع ذكر آخر، حتى لو هلك ذكرها الأول.
ماذا عن عالم البشر، وهل يوجد فيه الالتزام نفسه؟ بعد التزاوج، إذا استعرض طائر ريشه الجميل أمام أنثى مرتبطة بطائر آخر، من غير المتوقع أن تقول له ما أجمل ريشك، سوف أطير معك، بل إنها تقول ريش زوجي جميل أيضاً وسبق أن اخترته.
في عالم البشر يختلف الأمر حسب حريات الاختيار العقلانية المتاحة. السؤال هو، إذا استعرض رجل مواهبه ومؤهلاته أمام امرأة مرتبطة بآخر، ما الذي يمكن أن يحصل؟.
أعتقد أنه كلما كان الارتباط بين رجل وأنثى مؤسساً على محدودية واحتكار الاختيار للذكر فقط، كلما كانت احتمالات طيران الأنثى ولو خلسة مع ذكر آخر أكبر وأوسع.
باختصار: المرأة المقموعة في خياراتها والمحبطة لاحقاً من النتائج المترتبة على ذلك، قد تصبح أقل التزاماً بالرفيق والعش والأولاد.
ربما لهذه الأسباب، هناك خوف غريزي كامن في عقول المجتمعات الوصائية، والعنوان الأوضح لذلك هو الخوف والتحذير من الاختلاط وقيادة المرأة للسيارة ومن كل ما يتيح لها في المجتمعات الوصائية من إمكانات المقارنة.
ربما لهذه الأسباب أيضاً كثرت في وسائل التواصل الإلكتروني أخبار الفضائح والانهيارات الأخلاقية وخراب البيوت في المجتمعات الوصائية، على الرغم من كل المحاذير الشرعية والاجتماعية.
الاختلاط في العمل ومراكز التسوق ووسائل النقل المشتركة يساهم بدون شك في تقويض الافتراضات القديمة بإمكانية المحافظة على العفاف والشرف بالقوة الجبرية وسلطة الأعراف والتقاليد.
لكن هذه مسألة فرعية، وما يستحق النقاش بجدية قصوى هو التمييز بين مساوئ الاختلاط المتوقعة في مجتمع يخضع لأحكام القانون، مقابل مساوئ إنتاج إناث يسهل اقتناصهن ولا يضمن التزامهن سوى بالرقابة الدائمة.
المرأة المحبطة والمقموعة لن تعدم الوسيلة والوقت للتزويغ مع ذكر يعجبها، حتى لو لم تعمل ولم تتسوق ولم تقد سيارتها بنفسها.. ما أجمل عالم الطيور.