* حملتني خطاي لأول مرة قبل أكثر من ربع قرن إلى درة الوشم شقراء سائحاً برفقة سيدي الوالد رحمه الله وأرضاه، وذلك عقب عودتي من أمريكا مبتعثاً والتحاقي بالعمل في الدولة.. وكان سيدي الوالد خير (مرشد سياحي) لي للتعرف على بعض ملامح تلك المدينة، وشواهد النشأة الأولى للوالد الحبيب في بلدة (غسلة) القريبة جداً من شقراء، وشقيقتها جغرافياً وتاريخياً وإنسانياً (الوقف)، لا يفرق بينهما سوى (شعيب) ضيق، ورغم ذلك، روى لي دليلي السياحي الوالد الحنون، بعضاً من ملاحم (الخصام) الأخوي بين شباب القريتين يتكئ إلى شيء من التاريخ وشيء من التراث المشترك بينهما.
* * *
* انتهزت فترة الراحة القصيرة من عناء (الجولة السياحية) في ربوع شقراء والقرائن برفقة سيدي الوالد رحمه الله، فسألتُه المزيدَ عن دراسته الأولى في مسقط رأسه (غسلة)، فأجاب: (تعلمتُ (فكّ الحرف) وتلاوة القرآن الكريم لدى (مطوّع) الحي، مع نفر من أطفال القرية).
* وذات يوم، و(الحديث هنا لسيدي الوالد)، ((كنت أنتبذُ مكاناً قصيّاً من (كُتَّاب القرية) مع زميل آخر، وكنّا نتجاذبُ الحديث همْساً، مسْتَترين خَلف لوحيْن من الخشب رُسمِتْ عليهما حروُف الهجاء، وفيما نحن غارقان في الضحك الخافت والحديث الطفولي، إذا بلوح (المطوّع) يحلّق فوق رأسيْنا، ثم يرتطم باللّوح الساتر لوجهي، ليرتدَّ اليّ بعنف محْدِثاً شجّاً بليغاً في مقدمه رأسي، وتسيل الدماءُ، ويعلو الصياح، فأعدُو مهرْولاً خارج (الكُتّاب) وسط ذهول الحاضرين ودهشتهم، وألجأ خوفاً من غضب أبي إلى بيت عمتي/ حصة بنت عبد الرحمن بن سدحان، والدة وجيه شقراء الشهير وفيلسوفها الساخر، الشيخ/ عبد الرحمن السبيعي رحمهما الله، وأقسُم بين يديْ عمّتي ألاّ أعودَ إلى (الكُتّاب) أبداً بعد ذلك اليوم، فتكرّم رغبتي، وتحميني من غضب شقيقها والدي وتقنعه باحترام قسمي))!
* * *
* ويشير سيدي الوالد - رحمه الله - إلى أن (فلقة المطوع) أحدثتْ له نقلةً نوعيةً في مسار حياته، إذ (هاجر) في وقت لاحق إلى الأحساء حيث قرأ وحفظ مزيداً من القرآن الكريم، وتعلّم مبادئ الحساب والخط، قبل أن يحمله طلبُ العيش على ظهور الجمال إلى مناطق أخرى من المملكة شمالاً ووسطاً وغرباً.. ثم جنوباً، ليستقر مؤقّتاً في مدينة أبها، وكان قد جاء إليها بادئ الأمر مُوفداً من ابن عمته وجيه شقراء الشيخ / عبد الرحمن السبيعي ومعه رسالة من صقر الجزيرة جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن - طيَّب الله ثراه -، إلى حليفه الكبير الشيخ / عبد الوهاب أبو ملحة - رحمه الله -، غير أن الشيخ (أبوملحة) بعد أن فهم فحوى الرسالة، نصح سيدي الوالد بالبقاء في أبها حيناً من الوقت حتى يتمكّن من تحقيق الغرض الذي جاء من أجله.
* * *
* ويعمل سيدي الوالد بنصيحة الشيخ (أبو ملحة)، فيقيم في أحد أحياء مدينة أبها بمنزل لم يتجاوز أجره الشهري ثلاثة أرباع الريال، ويطيبُ له المقامُ بها فترةً طويلة تعرّف خلالها على أميرها ونفرٍ كريم من وجهائها ورجال الأعمال بها، ويخوضُ في عروض التجارة بيعاً وشراءً لبعض المواد الغذائية والاستهلاكية، حتى غدَا له في هذا المجال سمعةٌ وشأن، ثم يكتب الله له النصيبَ الحلال.. فيقترنَ بسيدتي الوالدة العسيرية أصْلاً ومولداً ونسَبَاً، طيَّب الله ثراهما، وأكون أنا ثاني نتاج ذلك اللقاء، بعد شقيقي عبد العزيز الذي مات في مهده طفلاً رضيعاً متأثراً بـ(عين لم تصلَّ على النبي) صلى الله عليه وسلم، ويكون كلانا ثمرةَ لقاحٍ ثقافي جميل بين بيئتين: البيئة الوسطى من بلادي ممثلةً في فاتنة نجد شقراء، والبيئة العسيرية، ممثلة في عروس المدائن أبها!
* * *
وبعد..،
فأود أن أختمَ هذا الحديث السابح في عباب الذكريات بوقفتين:
الأولى:
* أن القدرَ الجميل قد ساق خُطا سيدي الوالد - طيَّب الله ثراه - إلى أبها في مهمّة ظنّ بادئَ الأمر أنها قصيرة ويسيرة، وكان قبل ذلك (رحّالةً) في ربوع نجد وبعض مدن شمال ووسط الجزيرة، يمارس التجارة على ظهور (الركايب)، حتى حلّ بمدينة أبها، وطاب له المقامُ فيها، وتكيّف مع المناخ والبيئة هناك، وغدا واحداً من أبرز التجار في أبها.. وكانت له - رحمه الله - علاقاتُ عملٍ نَشِطة مع رموز تجارية أخرى مثل الشيخ الشربتلي في جدة والشيخ البسام في جازان وغيرهما، ثم جمعه النصيب الحلال ذات يوم لأول مرة مع سيدتي الوالدة قبل أكثر من خمسين عاماً، وكان من أمري وأمرهُما بعد ذلك ما كان، وأرجو الله أن يجمعني بهما في ديار النعيم.
* * *
الثانية:
* أنّ شقراء وأبها هُمَا في خاطري توْأَما الوجدان، يظلان يسكنان شعابَ القلب، ويعمُران سفوحَ الوجدان حُبّاً وولاءً وذكرى!
والحمد لله من قبلُ ومن بعد.