مضى عقدٌ ونصف من الزمن منذ رحيل فقيد الفكر والمعرفة، الشيخ حمد الجاسر -رحمه الله- لكن المتفوقين من البشر، أمثال شيخنا الجاسر، لا يبيدُ ذكرُهم ولا تذوب ذكراهم بغيابهم، بل يخلّدون في ذهن ووجدان كل متذكر لهم!
- وقد وصفته ذات يوم بأنه عَلَم وعالمٌ ومعلَّم.. وأنه غَرسَةُ خزامى في روض هذا الوطن الزاخر بالخيرات نبتَتْ في وقتٍ كان خريجُو الجامعات يشغلون رقماً متواضعاً في بنيتنا البشرية العاملة.
* * *
- عرفتُ الشيخ حمدَ الجاسر قبل نحو أربعة عقود، لكن الحظّ لم يمنحني وقتئذٍ شرفَ التواصل معه فتراتٍ أطول بسبب غيابي الطويل للدراسة في أمريكا سبعاً من السنين، بعضُهن عجافٌ. لكنّني أذكر أول لقاء معه.. وكان حَدثاً لا يُنسَى!
* * *
- كنتُ يومئذ طالبا في المرحلة الثانوية بمدرسة (اليمامة) بالرياض، وكنتُ أمارس (هوايةَ) الرسم بالكلمات في صحيفة (القصيم).. مع جيل من الشباب.. وكنتُ أمنِّي النفسَ عبثاً (باقتحام) أسوار (يمامة) الشيخ حمد الجاسر، أملاً في الفوز بمساحة صغيرة أُباهي بها رفاقَ المدرسة، وأزهُو من خلالها بقرب ثُلّةٍ من عمالقة الحرف في ذلك الحين، بدءاً بالشيخ الجاسر نفسه.. مروراً بالأساتذة الكرام.. عبدالكريم الجهيمان وعبدالله بن خميس رحمهما الله، وسعد البواردي وعبدالله بن إدريس حفظهما الله، وغيرهم كثيرون.
* * *
- قّررتُ ذات يوم قبل رحيلي إلى أمريكا للدراسة الجامعية أن أخطبَ ودّ صحيفة (اليمامة) الأسبوعية (وقتئذ) مباشرةً عبر شيخها الجاسر، فكتبتُ مقالاً متواضعاً أنتقدُ فيه كثافةَ العمالةَ الوافدة إلى بلادنا من إحدى الدول العربية، زاعماً أنها تتنافس تنافساً غير متكافئ مع العمالة المحلية، وكان ذلك تفكير شاب غَضّ لم يبرحْ بعدُ مقاعدَ الدراسة، ولم يدرْ بخلده قط أنه سيختزن ذلك الهاجس، وسيسَافر معه عبْر السنين ليتجاوز بعد حين حاجزَ الوهم إلى الحقيقة!
* * *
- حملتُ (مقالي) قاصداً (عرين اليمامة) في شارع المرقب بالرياض، لم يكن الوصولُ إليه يسيراً، كان الشيخ الجاسر مهيباً.. مع قدر من الرفق، سلّمتُه المقال، فقرأَه حتى أتَى عليه! كانت أنفاسي وقتئذٍ محبوسةً، وأنا أرقب لحظةَ (النّطق بالحكم) للمقال أو عليه، وجاء حكمُ الشيخ سريعاً عبر كلمات موجزة وحاسمة، حيث قال ما معناه: يا ابنّي، لك أسلوبٌ واعدٌ، أما ما كتبتَه فغيرُ مناسب الآن: توقيتاً ونتيجةً، العربّ اليوم يا بُني ينشدون ما يوحدهم ولا يفرقهم، وأنت بهذا المقال تسير في (الاتجاه المعاكس)! وكان رده -رحمه الله- درساً سياسياً لن أنساه!
* * *
- خرجتُ من مكتب الشيخ حمد وأنا ألعقُ مرارةَ الفشَل.. رغم إطرائِه لقلمي.. ثم توالتْ الأيام.. والأحداث، وقررت أن أتسلّل إلى حمى (اليمامة) فكتبتُ مقالاً آخر (أنعى) فيه التضامن العربي في أعقاب محنة سياسية طارئة سبّبها تهديد الرئيس العراقي عبدالكريم قاسم لدولة الكويت عبر حشوده العسكرية على الحدود المشتركة بين البلدين، ثم أرسلت المقال عبر البريد إلى الشيخ حمد الجاسر.. وكم كانت فرحتي حين فُوجئتُ بمقالي منشوراً في الصفحة الأولى من (اليمامة) الصحيفة في عدد الأسبوع التالي، وكان فوزاً مشهوداً، شَحَن قلبي بالزهو، وأعاد لقلمي قدراً من اعتبار!!
* * *
- وعدتُ من أمريكا.. في مطلع التسعينيات الهجرية.. فإذا (يمامةُ) الأمس قد صارت مجلة تزهو بالحرف الجميل، ويرأس تحريرها الصديق محمد الشدي، وبحثتُ عن الشيخ المؤسِّس.. فإذا هو يطوف الأمصَار، إمّا بحثاً عن معجم، أو تحقيقاً لمسألة تتعلق بتاريخ أو جغرافية أو أدب هذه الجزيرة. وتلك هي السِّيرة العطرةُ التي عُرفَ به الشيخ الجاسر، وصار بسببها عَلمَا من الأعلام!
* * *
وبعد..،
- فرحم الله العلامةَ المعلَّم الشيخ حمد الجاسر، فقد كان سراجاً منيراً للبحث والتوثيق والنشر في أكثر من مجال، وورثتْ بلادُه من بعده تركة ثمينة من الكتب والأبحاث تذكّر به، وتشهد لفضله، ويتعلم منها طلاب العلم ورواده الكثير.