عندنا مثل محلي عن خادمين يقول أحدهما للآخر: يا سعيد، عمي ذبحني بالمكدة، ودي أذبحه وأتخلص منه. يرد الخادم الآخر: إذبح عمك بالودك (أي الشحم والسمن). المعنى المحتوى في المثل هو أنك تستطيع القضاء على عدوك بتوفير الترف الغذائي له، لأن العنصر الإجرامي في ذلك لا يمكن اكتشافه.
أيام الأبيض والأسود ، ربما قبل أربعين سنة شاهدت فلما إنجليزيا، نقلا عن عمل قصصي أدبي شهير بعنوان: الخادم (The Servant).
تبدأ القصة في قصر ثري إنجليزي لم يهتم بتربية ابنه الوحيد جيدا، وتركه يغوص في ملذات اللهو، يسهر ويشرب ويرقص ثم ينام حتى تغرب الشمس، ليصحو من أجل ليل جديد. المشرف على شؤون القصر التنظيمية والتموينية كان أجيرا شابا (يسمى Butler في الفلم)، تسلم المهمة بعد وفاة والده الذي كان يقوم بنفس العمل في القصر من قبل.
كان المستخدم شابا قويا وذكيا، لا يتفوه بكلمة حتى يسأل، وإن تكلم اختصر، ينفذ الطلبات بإتقان وصمت ودون تدخل أو تذمر. الوالد الثري يريد حياة مريحة مرتبة ومنظمة، له ضيوفه الأثرياء وناديه وهواياته، والابن اللعوب له صاحباته وأصحابه وسهراتهم الصاخبة ونمطه المعيشي في الليل والنوم في النهار.
لم يكن الفلم يظهر أي مؤشرات لفظية أو تلميحية تدل على انزعاج الخادم أو رضاه عن أي شيء.. إلا بطريقتين، إما بزم الشفتين ورفع الحاجبين إلى الأعلى عندما يدير ظهره ويبتعد منصرفا بعد تلقي الأوامر، أو الإطراق الصامت بعد الانتهاء من الإشراف على ترتيب القصر آخر الليل وإعداده لليوم التالي. من تكرار هذين المؤشرين في الفلم يستطيع المشاهد استنتاج احتقار الخادم لأسياده واستهتارهم بالحياة والنعمة، وأنه في لحظات الإطراق الصامت يحاول التخطيط لإحداث تغيير ما.
مع استمرار مشاهد الحياة الروتينية للشخصيات الثلاثة ينتبه المشاهد لمبالغة الخادم في توفير الملذات المحببة للأب من الحلويات والأطعمة الدسمة وأفخر أنواع التبغ، وفي توفير الخمور القوية وأقراص السهر والانتشاء للابن.
لا تدور أحداث كثيرة ذات نفس دراماتيكي في الفلم، لكن المتابعة للمعيشية اليومية توضح أن الأب يفقد لياقته البدنية تدريجيا وبسرعة بسبب السمنة وأمراض الرفاهية الغذائية، وأن الابن ينزلق نحو الانهيار العصبي والاعتماد الكلي على رعاية الخادم، حتى في ارتداء ملابسه.
في النهاية يموت الأب الثري باعتلالات الرفاه الغذائي والتدخين، وينزلق الابن إلى هاوية العدمية وفقدان معنى الحياة، رغم أنه يرث كل ثروة أبيه لانه الابن الوحيد.
مع هذه الاستدارة التراجيدية في اتجاه الحياة يبدأ الخادم في القضاء المبرمج التدريجي على الابن والتحايل للاستيلاء على كل شيء بمساعدة مستشار قانوني نصاب. ينتهي الأمر بوفاة الابن بجرعة مخدرات في سهرة ماجنة، ويستولي الخادم (قانونيا) على كل شيء ويصبح سيد القصر.
ما زالت العبرة من هذا الفلم تطن في دماغي وأتذكرها تكرارا عند التفكير في أمراض الترف الغذائي والاستهلاكي السفيه والركض اللاهث لاصطياد المتع، وهي ممارسات شائعة على نطاق واسع في منطقة الخليج والنفط ومزاين الإبل.
في بعض الدول الخليجية يتواجد تسعون موفرا للخدمة (خادما بالمجاز) مقابل كل عشرة مواطنين وفي السعودية هناك منهم عشرة ملايين، أي بمعدل واحد لكل اثنين من المواطنين. هذه هي النسبة التي قتلت الأب الثري وابنه ونقلت ثروته إلى الخادم في ذلك الفلم الإنجليزي المزعج الذي لا يريد أن يتبخر من ذاكرتي.