أحيانا ً يقع بين يديك كتاب قديم يحتل فيه النص (المتن) المساحة الأكبر من الصفحة، لكنك تعثر على بعض الحواشي الجانبية في الهامش خارج الإطار الضام للنص الأصلي . بعد أن تكمل قراءة المتن ثم تنتقل إلى الهامش في الحاشية، قد تجد أن العمق الفكري والمعرفي لم يكن في المتن، بل في الحواشي، أي على الهامش .
الوضع هكذا شديد الشبه بالمحتوى الإداري الرسمي للأنظمة في دول العالم الثالث، تلك التي تتواجد فيها الشخصيات المضمونة الولاء في الداخل، أي في المتن، وتلك التي تمتلك الكفاءات الحقيقية متروكة على الهامش .
للشعوب، ممثلة بالأنظمة التي تحكمها تاريخ طويل مع إشكالية الاختيار بين رجال الطاعة المطلقة الذين تنقصهم الكفاءة، ورجال الفكر والمعرفة الذين يمتلكون الكفاءة وتنقصهم القدرة على الطاعة دون إبداء الرأي والتعليل .
الدول التي خسرت الحرب العالمية الثانية (ألمانيا، اليابان، إيطاليا) لم تكن تنقصها الكفاءات في كافة المجالات، لكن أنظمة حكمها أساءت الاختيار الإداري بتقديم الولاء الأعمى للنظام مع الصمت المطبق، على الكفاءة العلمية والمهنية الملتزمة بالسؤال والتعليل. كانت الآلة الإدارية القمعية في تلك الأنظمة تفرض على ذوي الكفاءات والعقول تنفيذ ما تطلبه القيادة دون سؤال، بمعنى أن الولاء الصامت هو الذي كان يرسم طريق المستقبل بدون اعتبار لمن يمتلك الكفاءة والرأي الصائب . في النهاية سقطت ألمانيا وإيطاليا واليابان واستسلمت. النهضة اللاحقة التي حققتها هذه الدول بعد الهزيمة أصبحت ممكنة بعد تصحيح المسار، أي تقديم الكفاءات المتسائلة على الولاءات الصامتة، والكفاءات كانت متوفرة منذ البداية لكنها كانت على الهامش.
كذلك الاتحاد السوفييتي السابق وعراق صدام حسين وسوريا عائلة الأسد، كلها كانت دولا ً لا تنقصها الكفاءات، لكنها سقطت بسبب تقديم الأنظمة للولاءات المضمونة على الكفاءات التي تريد أن تسأل لماذا.
حتى الآن، مع بعض بوادر التغيير الإيجابي البطيئة، تفضل كل الأنظمة العربية ومن ضمنها العربية الخليجية، مبدأ الاختيار الإداري بناء على الولاءات المضمونة، مع إبقاء الكفاءات المهنية في وضع «ستاند باي» للرجوع إليها عند الحاجة الماسة فقط .
جميع أنواع الفساد الإداري والمالي وفشل خطط التنمية وقصور الخدمات المريع مقابل المبالغ الهائلة المرصودة لها، كل هذه الإخفاقات في دول العالم الثالث تعود بالأساس إلى هذا السبب.
الكفاءات موجودة بما فيه الكفاية، لكنها كفاءات ذات عقول تريد طرح الأسئلة والحصول على إجابات. المشكلة أن الأسئلة تسبب الصداع وتسد منافذ الانتفاع الطفيلي في الدهاليز البيروقراطية. بهذا المعنى لا عجب أن يكون ما في الهوامش أحيانا ً أكثر عمقا ً من المتون في الداخل.