ترى هل كان عنترة بن شداد سينحت معلقته على صخرة التراث العربي لو كان حرًا وتزوّج ابنة عمه؟ أم كان قيس العامري سينثر تلك الدُّرر والصُّور الجماليَّة في قصائده لو تزوّج محبوبته وابنة عمه ليلى؟! إن المعاناة من أقوى الدوافع لبعض بني البشر من حيث يشعرون أو لايشعرون،
يأتي ذلك الإبداع إما وصفًا وتجسيدًا لتلك المعاناة أو بوحي وتأثير منها بأدوات وقوالب مختلفة، إما شعرًا أو روايةً، أو لوحة فنيَّة أو إبداعًا موسيقيًّا وغيرها من ألوان الفنون. كما يأتي الإبداع إنجازًا علميًّا ومهنيًّا وهذا أبلغ أثرًا كما نراه من أمثلة تاريخية عديدة.
إن بعض كبار فناني العالم التشكيليين هم من الفقراء المعدمين، فتجد أحدهم وقد أخذته أحلام اليقظة إلى ما تشتهيه نفسه فراح يجسِّد تلك الأحلام في لوحته فخرجت درة تحبس الأنفاس، إما رسمًا لطبق فاكهة اشتهتها نفسه، أو لغانية أرستقراطية حالت بينه وبينها الأسوار العالية فراحت أنامله تبدع لوحة تكاد تنطق من دقة ما نثره من لواعج نفسه بريشته على تلك اللوحة. إن الحرمان والمعاناة يترجمهما بعض من يكتوي بنارهما إيجابيًّا فيقلب المعادلة ويستعيد توازنه النفسي والاجتماعي باستثمار هذا النجاح والنظر إلى الماضي لأخذ العبر وتوظيفها في إبداعه والنظر إليها كوقود للنجاح والتميز.
لو نظرنا إلى المجتمع الروسي في عهد القيصرية مرورًا بالفترة الشيوعية بعد ثورة البلاشفة حتَّى تفكك الاتحاد السوفيتي، نرى أن المجتمع الروسي قدم إلى العالم كتَّابًا وروائيين وشعراء ما تزال أعمالهم الأدبيَّة ملهمة لبقية الآداب العالميَّة وجاذبة لعشاق المعرفة الإنسانيَّة والفكر والثقافة عبر العالم. فمن يجهل الشاعر الروسي من أصل إفريقي بوشكن، والروائي الأرستقراطي تولستوي، ودوستويفسكي والطّبيب الأديب أنطون تشيكوف. هؤلاء وغيرهم ألهبت معاناة المجتمع الروسي فكرهم وخيالهم فانهمكوا يردون على الاستبداد بروايات ومسرحيات وقصائد ما تزال تطبع بمعظم لغات العالم وتوزع عبر القارات. حتَّى إنها ألهمت استوديوهات هوليوود ومخرجيها بتحويلها إلى أفلام حقّقت شهرة عالميَّة، لأنّها تسبر أغوار النَّفْس البشرية بخيرها وشرها، ثمَّ إن الروس إبان فترات الحكم الاستبدادي، ثمَّ الشيوعي بالتحديد خلف الأسوار الحديدية التي عزلتهم عن التواصل الفعَّال مع بقية العالم وفي صقيع الأجواء الروسية، انكبوا على تلك الأعمال الأدبيَّة وراحوا يقرؤونها تزجية للوقت الطويل وسلوانًا لكبتهم ومعاناتهم، وشحذًا لوعيهم وفكرهم.
فلسطين وشعبها المناضل مثال آخر للمعاناة وكيف أنها تدفع للإنجاز والإبداع، فالمخيمات والفلسطينيون في الشتات خرجوا أطباء ومهندسين، معلمين ومحاسبين ومهنيين أسهموا في تنمية وبناء البلدان العربيَّة التي نزحوا إليها وهم أكثر الشعوب العربيَّة نسبة في حمل أبنائهم للشهادات الجامعية.
إننا نشاهد في الأولمبياد في كلِّ دورة كيف أن الأفارقة يتفوقون في ألعاب القوى بالذات رغم قلّة إمكاناتهم وظروفهم القاسية، في رد معبّرٍ وتحدٍ خرج من رحم المعاناة. انظر إلى سيرة محمد علي كلاي شفاه الله، ترى في فصولها ردًّا على التمييز العنصري الذي عاناه الأمريكيون السود على امتداد تاريخهم، حتَّى تراجع هذا التمييز إلى أدنى درجاته بانتخاب باراك أوباما كأول أمريكي من أصل إفريقي يحكم أمريكا منذ تأسيسها. والله يرعاكم بعنايته.