كثر طلاب الشهرة في أيامنا هذه على امتداد العالم والوطني العربي خاصة ووطننا بالأخص، وهو مدار حديثي لأنه الأولى باهتمامنا. لا يجادل مطلع بأن ثورة الاتصال وتقنياتها قد باغتتنا كما يباغت الفيضان مدينة وادعة غافلة يختلف تعامل سكانها معه باختلاف عقولهم وقدراتهم، فمن يجيد ضبط نفسه ويجيد السباحة فسوف يعبر إلى بر الأمان غالباً..
، وأما من يستسلم للخوف ولا يجيد العوم والتصرف فسوف يكون في وضع عصيب. بيننا من تعامل مع هذه التقنية بمبدأ تطويعها للاستفادة والإفادة والترفيه دون اضرار وإسفاف، والبعض الآخر فقد توازنه وسقط من أول موجة لهذا الطوفان، والغريب كثرة طلاب الشهرة بأي ثمن، بحكم أن هذه الشبكة فضاء مفتوح دون قيود وضوابط. ومثل هذه البيئة مرتع لصغار العقول والنفوس، حتى كثر من (يفخر) بالخروج من الملة، في تقليد بليد وأحمق لـ(الحرية) لدى المجتمعات الأخرى ومسخ للهوية الحضارية والاجتماعية وكأنهم يبحثون عن اعتراف وتكريم أو حتى لجوء لدى دولة أو أخرى ناسين أن من يفقد احترامه لذاته وهويته فلن يحظى باحترام غيره.
حين أقرأ هذا البيت:
ومن يغترب يحسب عدوا صديقه
ومن لا يكرم نفسه لا يكرم
أتعجب هل حقًا قائل هذا البيت عاش قبل أكثر من 1400 سنة ؟!، وهو الشاعر الحكيم وصاحب إحدى المعلقات زهير بن أبي سلمى المزني. لعل من يقرأ هذا من أولئك الصغار عقولاً لا سناً سيتهمني بالماضوية أو الرجعية أو غيرها من تلك المصطلحات التي بات يلوكها من لا يدرك حتى معناها. الإرث الفكري والحضاري هو الأرض التي تبني عليها الأمم حاضرها ومستقبلها وبقدر صلابة هذه الأرض تكون قوة البناء. البكاء على الأطلال والارتماء في أحضان الماضي والتغني بكل ما فيه، وترك العمل البناء في الحاضر واللحاق بالأمم الصاعدة والمتحضرة كل هذا غياب للوعي ودروشة فكرية لا نتمنى طغيانها، لكن الوعي والتحضر هو أخذ الدروس والعبر والحكم وتوظيفها للحاضر، مع احترام الماضي المشرف منه ورموزه وعدم توظيف هذه التقنية وفضائها المفتوح في النيل منها بهدف الشهرة من أشباه كتاب أو أنصاف متعلمين. الشهرة سهل الوصول اليها اليوم مع هذه الثورة التقنية وغيرها من فضاءات الفوضى، لكن مثل هذه الشهرة الرخيصة لن تدوم طويلاً ولن تبرح مجالس السمر لأن الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس يبقى.
كنت في المكتبة قبل أيام وإذا بطبعات جديدة لكتب الدكتور مصطفى محمود يرحمه الله، فقلت في نفسي سبحان الله، فالشهرة هي من تلاحق الكبار حتى بعد مماتهم، ولم يطلبوها وهم أحياء لكنها خضعت لسلطان عقولهم وعلمهم ومواقفهم وإسهاماتهم. في ندوة عقدها الدكتور مصطفى قبل سنوات من وفاته رحمه الله، وسط حضور علماء ومفكرين وكتاب وإعلاميين، ذكر بأنه فكر فقال في نفسه: (لا يعقل أن أقابل الله بشوية كلام) ويقصد كتبه ومؤلفاته، فهداه إيمانه ونفسه الكبيرة إلى بناء مسجده المعروف وسط القاهرة ملحقاً به عيادات طبية تعالج الناس بالمجان إلى جانب مرافق خيرية أخرى. ترى ما الذي يجعل دار (أخبار اليوم) للصحافة والنشر المعروفة في مصر تقدم على اصدار هذه الطبعات الجديدة من كتب الدكتور مصطفى محمود والتي يعود تاريخ تأليف بعضها إلى ثلاثين سنة أو أكثر لو لم تكن على يقين بأن الأيادي سوف تتلقفها من أرفف المكتبات ومعارض الكتب على امتداد الوطن العربي. هذه الشخصية التي أثرت العقول كتابة وإعلاماً عبر برنامجه الشهير (العلم والإيمان) والذي كان يتحدث فيه بصوت هادئ ونظر ساهم كمن يلتقط كلمات تمر أمام عينيه لتلائم عقول وتفكير مشاهديه على اختلاف مستوياتها. انطلق في رحلة امتدت ثلاثين عاماً في قراءات متعمقة في صنوف الفكر والفلسفة والعلوم والآداب العالمية والعربية ورحلات في مجاهل غابات أفريقيا ومعابد الهند والصين والصحراء الكبرى، حتى حط رحاله وبدأ في ترتيب إيمانه وعلمه وفكره ثم راح يتحف المجتمعات العربية بثمار علمه في خلق وتواضع الكبار، فأبت الشهرة أن تتركه بل لاحقته ومازالت حتى بعد مماته. هنا الفرق بين الكبار وبين الصغار ممن يطلبون الشهرة بأي ثمن.
دامت لكم متعة المعرفة واحترام الكبار ولكم فائق التحية.