كل هذا التغيير في مجتمعنا يدفع الفتيات أكثر إلى التأني في موضوع الزواج. وكلما زاد سن الفتاة ارتفع معدل وعيها وتقنين طلباتها في زوج المستقبل. الفتاة الصغيرة - غالبًا - تنظر إلى الرجل كهدف تصل إليه، بينما الفتاة الناضجة تنظر إلى الرجل الذي تريده زوجًا لها كهدف لحياة آمنة واستقرار أسري. مع ذلك، ما زالت (بعض) فئات المجتمع تنظر بعين الرحمة والشفقة إلى الفتاة التي لم تتزوج، مع أنها هي من اختارت هذا الطريق؛ لأنها لم تجد الرجل الذي يُرضي أهدافها المستقبلية، ويُشبع عقلها ومتطلباتها الفكرية. من هنا تأتي «العنوسة الاختيارية»؛ إذ تقرر الفتاة أن تبقى وحيدة أفضل من أن ترتبط بشخص تافه، أو به عيوب أخرى قد لا تتقبلها.
السائد في المجتمعات الذكورية هو تطويع الكلمات لكل ما يُحسب ضد المرأة. فمثلاً لقب «عانس» يأتي في قواميس اللغة العربية شاملاً الجنسين؛ إذ يُقال: «عَنَستِ البنت» أي طالت عزوبيتها، ولم تتزوج. و»عَنَسَ الرجل» أي أسَنّ ولم يتزوج. ومع ذلك لا يمكن أن نجد في مجتمعاتنا من يُلقب الرجال بهذا اللقب، بينما هو دارج وصفه للمرأة، حتى ضمن المؤسسات التي يُفترض أن تنشر الوعي كالمؤسسات الإعلامية، جعلته أيضاً مُحتكراً على المرأة!
الحياة تغيَّرت، ولم يعد الزواج وحده هو الهدف الرئيسي بها، إنما هو أحد أهداف الحياة، وتراه الفتيات الناضجات من منظار ضيق عن غيرهن، تراه رحلة بحث عن رجل تصل معه إلى سن الشيخوخة وهي بأمان؛ لذا فإن كثيراً من النماذج السيئة التي تظهر في مجتمعاتنا الشرقية تجعل الفتيات أكثر عزوفًا عن الزواج، وهذا هو الخلل الذي يحتاج إلى البحث والعلاج وليس العزوف عن الزواج فقط.
الفتيات الآن في عالم منفتح، تعددت فيه النماذج، ولم يعد فيه الشاب السعودي هو الخيار الأوحد أمامها. هي ترى، وتبحث، وتقرأ، وتشاهد، وتحتك بأناس من كل الجنسيات في مواقع التواصل الاجتماعي؛ لذا بدأنا نسمع عن كثير من الفتيات ورغبتهن في الزواج من أجنبي. أنا شخصيًا لا أميل إلى الزواج من خارج ثقافتنا العربية، إنما أحاول قراءة مشهد فرض نفسه علينا ضمن إحصائيات تشير إلى وجود أكثر من مليون ونصف المليون فتاة سعودية تجاوزن سن الثلاثين دون زواج، بحسب صحيفة عرب نيوز. وتتوقع الإحصائية نفسها بلوغ العدد إلى أربعة ملايين فتاة في عام 2015م، وهذه أعداد ليست بالقليلة، وتؤكد وجود خلل كبير؛ يحتاج إلى البحث والدراسة والوصول إلى نتائج محايدة بعيدة عن المنظور الثقافي المحلي والرؤية الأحادية. هذا أيضاً يحتاج إلى حملات توعية مكثفة، ليس في موضوع الزواج إنما في التغيير الثقافي لمسألة الزواج بشكل كامل.
وأذكر أنني تحدثتُ مع عدد ليس بالقليل من الفتيات بأعمار مختلفة، جميعهن يرفضن الزواج بحجة عدم التوافق الفكري. فما زالت النظرة إلى مؤسسة الزوجية تتعامل بأسلوب قديم، وتجسيد هذه المؤسسة من خلال الاحتياجات المادية والجسدية دون النظر إلى أبعاد أكثر امتداداً من هذه الأساليب.. العالم يتغير، والفتاة السعودية تغيرت كثيرًا، لكن مفاهيم تكوين الأسرة ما زال في نمط العصر الماضي؛ ما جعل الفتيات يحبذن العنوسة الاختيارية!