لقد كان من هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن يكون قدوة لأمته في كل أمر نافع: قولاً أو عملاً، وأن يرشدهم لما فيه سعادتهم، وخيرهم في أمور حياتهم، وفي تنظيم معاشهم واستقامة أحوالهم.
والنفس البشرية هي محور التوجيه، وميدان الإرشاد للسيطرة على انفعالاتها..والمحافظة على استقامتها وسلامتها، ولذا، كان الدعاء من أقوى الركائز لتهدئة هذه النفس واطمئنانها وإزاحة المخاوف عنها.
والعلوم الحديثة، كلما اتسعت وظهر للناس من التحليل فوائد تتعلق بهذه النفس، فإنها تحظى بقسط كبير في النفاذ والإحساس الوجداني والعاطفي مع التأثير الصحي.
وإذا كان الشيطان الذي تخفى على بني آدم رؤيته في الدنيا هو وأعوانه من شياطين الجن، كما قال سبحانه: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (27) سورة الأعراف.
فإن الأدعية التي علمها رسول الله أمته هي أقوى سلاح، يشهره المؤمن في وجه عدو الله، وعدو عباده المؤمنين وهو الشيطان الرجيم، الذي نذر نفسه بإغواء بني آدم، وصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، حتى لا يكونوا شاكرين لنعمة الله معترفين بفضله سبحانه.
فدعاء الدخول إلى المنزل والخروج منه، ودعاء الدخول للمسجد ودعاء الخروج منه، ودعاء الأكل والشرب والتسمية عند البدء، وحمد الله وشكره، وما حدده رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ومنها عند التقاء الرجل بزوجته حتى لا يكون للشيطان شراكة في المولود وغير هذا من أمور.
كل هذه الأدعية تقوي النفس وتجعل للمؤمن حجاباً يمنع الشيطان من المشاركة؛ لأنها تطرده وتقوي النفس البشرية لصد عدو الله وعدو بني آدم، حسب أمر الله بأن يأخذ كل فرد منهم حذره من هذا العدو الذي نذر نفسه حقداً منه بأن يغوي ذرية بني آدم إلا قليلاً منهم، وهم من حماهم الله بقوة الإيمان والتمسك بالأسلحة الحافظة من كيد الشيطان ومكره حسبما أخذ على نفسه، أن يجلس لبني آدم بالمرصاد: من بين أيديهم ومن خلفهم، ولا يجد الله جل وعلا أكثر ذريته شاكرين، وهي حكمة إلهية قضاها الله في الأزل بأن يتصارع الخير والشر: جانب الخير في طاعة الله وشرعه، والشر في الاستسلام للشيطان وحزبه، فأرسل الله في جانب الخير والفلاح، الرسل يحذرون من الشر وطرقه، وعلى الجانب الثاني الشيطان وحزبه وإغراءاته ليصد الناس عن ذكر الله وعن الصلاة.
وقبل ذلك اقتضت حكمة الله أن يخرج من صلب آدم ذريته وأشهدهم على أنفسهم بهذا، وأنه ربهم، وكان هؤلاء خلقهم الله حنفاء فاجتالهم الشيطان بالمغريات والملذات فوعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً.
وكان مما علم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أصحابه من الآداب: دخول الخلاء الذي هو مسكن الشياطين، وكان عرش كبيرهم إبليس على الماء، ودعاء قضاء الحاجة والدعاء الحاجب للشياطين الذي يحجبهم عن عورات المؤمنين، عند دخول المرء وعند قضاء الحاجة التي تتكشف فيه العورات، كما قال أنس بن مالك، رواية عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كان إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك: أخرجه الترمذي.
ويروى عن علي بن أبي طالب أنه يزيد بقوله: بعد أن يمسح على بطنه: الحمد لله الذي أذاقني لذته وسلك في منفعته وأزال عني مضرته بحول الله وقوته.
«وعن أنس بن مالك: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كان إذا خرج من الخلاء يقول: غفرانك» أخرجه الترمذي وأبو داود، وقال بعض أهل الحديث في هذه الكلمة: إن من خصائص هذا الدعاء قولين: أحدهما: التوبة من تقصيره في شكر النعمة التي أنعم بها عليه، من إطعامه وهضمه وتسهيل خروجه، فرأى أن شكره قاصر عن بلوغ حق هذه النعمة ففزع إلى الاستغفار منه هذا الدعاء فيه طرد للشيطان، وليس فيه ذكر لله سبحانه لأنه منزه عن ذلك.
والثاني: استغفر من ترك ذكر الله سبحانه مدة لبثه على الخلاء، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان لا يترك ذكر الله إلا عند قضاء الحاجة، فكأنه رأى ذلك تقصيراً منه بالاستغفار.
ولهذا الدعاء أهمية كبيرة في أمور عديدة تغفل عن إدراكها كثير من نفوس البشر مما يدعو للتأمل والعناية.
فمنها أن هذه الأدعية تحجب الجن عن عورات بني آدم، إذا دخل أحدهم الخلاء، كما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم، إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول: بسم الله» أخرجه الترمذي.
لأن بيوت الخلاء هي مساكن الشياطين، كما روى زيد بن أرقم رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث) أخرجه أبو داود.
وفي هذا شكر لله على ما وهب هذا الانسان من طعام وغذاء يجري هضمه بدقة وعناية، وتتولاه أجهزة بدقة بديعة منتظمة العمل، لتقوم بعمليات بديعة حيث أسهب المختصون في العصر الحاضر، وكيفية الأعمال الدقيقة المعقدة، مما يدعو للتبصر وإمعان النظر ثم يقابل بالاعتراف لمن دبر ذلك سبحانه، وهيأه، بالوحدانية والمقابلة بالشكر والخضوع لله بالطاعة، وقد أدرك علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو واحد من تلاميذ مدرسة النبوة، شيئاً في ذلك، السر بإمعان النظر، فكان يقول عند خروجه من الخلاء، بعد أن يمسح بطنه بيده: الحمد لله الذي أذاقني لذته وسلك فيَّ منفعته، وأزال عني مضرته كما مرَّ.
إن علماء التشريح، وأصحاب المخابر لو أعطوا نتائج مطولة للمختصين في بحث خفايا الجسم، لن تخرج عن هذا الدعاء الموجز الذي يتابع الغذاء لذة في الجسم ومنفعة في الباطن.
فعالم الجن الذي يحوطه الخفاءكعالم الشياطين والجن غير المحسوس إلا ما يأتي في مثل هذه الأدعية التي تحمي منهم، وأنهم أرواح وأنهم أمة سكنت الأرض قبل بني آدم وأفسدوا فيها، كما جاء إشارة لذلك في سورة البقرة عند أمر الله لهم بزعامة إبليس، أن يسجدوا لآدم فامتنع إبليس عن السجود تكبراً، وأن الله أنزل في القرآن سورة عنهم وعمن أسلم منهم.
وما روي في بعض الكتب عنهم وتلبس بعض المردة بحالات قد يصدق بعضها وقد يشك في الأخبار لكن الذين أسلموا على يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- حق وصدق، فكان يعلمهم أمور دينهم، وجاءت أخبار عن عبد الله بن مسعود الذي كان يذهب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في موضع شرق مكة يعرف حتى الآن باسم مسجد الجن: فمنهم الصالحون ومنهم دون ذلك، ولهم حكايات في بعض كتب التاريخ.
فالشياطين هم مردة عالم الجن الذين يغوون عباد الله.