هو كعب بن مالك بن عمرو السّلميّ الخزرجي الأنصاري، صحابي ممن شهد العقبة، ومن أجلاّء الصحابة، له ذكر كثير في كتب الحديث، لأنه روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرات الأحاديث، ويأخذ عنه الفقهاء في كتبهم، استشهاداً واسترشاداً، ولا يغفل عن ذكره مفسر.....
..... لكتاب الله في تعرضه لسورة التوبة، حيث أنزل فيها توبته مع صاحبيه: مُرارة بن ربيعة، وهلال بن أمية، كما يأتي اسمه مع قصته في كتب السير والتاريخ، عند المرور بذكر غزوة تبوك، ومع ذلك فقلّ أن تجد كتاباً أدبياً، يهتم بالشعر في صدر الإسلام، إلا وكعب بن مالك في مقدمة الشعراء، وقد أنقذه الله بصدقه من وصمة النفاق، تلك الخصلة المقيتة، التي وقع فيها كثيرٌ ممن آمن بلسانه، ولم يؤمن قلبه، وقد فضحتهم سورة براءة، التي تاب الله فيها على المؤمنين وعلى الثلاثة الذين خُلّفوا، حتى صار بعض العلماء يسميها الفاضحة.
قال عنه الزركلي: صحابي من أكابر الشعراء من أهل المدينة، اشتهر في الجاهلية، وكان في الإسلام من شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم، وشهد الوقائع، ثم كان من أصحاب عثمان، وأنجده يوم الثورة، وحرّض الأنصار على نصرته، ولذا قال عثمان: قعد عن المشاركة في الفتنة (الأعلام 6: 5).
ذكر الذهبي: أن كنيته في الجاهلية أبو بشر، وأن له عدة أحاديث تبلغ الثلاثين، اتفق الشيخان على ثلاثة منها، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديثين، روى عنه بنوه: عبدالله وعبيد الله وعبدالرحمن ومحمد ومعبد بنو كعب، وجابر وابن عباس، وأبو أمامة، وعمر بن الحكم، وعمر بن كثير بن أفلح، وحفيده عبدالرحمن بن عبدالله وآخرون.
وقد آخى الرسول صلى الله عليه وسلم، بعد الهجرة بينه وبين الزبير بن العوام، وقيل بين كعب وطلحة بن عبيدالله، وكان من أهل الصّفة (سير أعلام النبلاء 2: 523 - 524).
قال ابن سيرين: بلغني أن دوساً، إنما أسلمت فرقاً من قول كعب بن مالك:
قضينا من تهامة كل وتر
وخيبر ثم أغمدنا السيوفا
نحبّرها ولو نطقت لقالت
قواطيعهنّ دوماً أو ثقيفاً
فقالت دوس: انطلقوا فخذوا لأنفسكم، لا ينزل بكم ما نزل بثقيف، (أُسد الغابة 4: 88) فكان داعية بلسانه، مدافعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بشعره، كما كان مجاهداً بسنانه ورمحه، مدافعاً بنفسه حتى جرح سبعة عشر جرحاً في أُحد، وحُمل من المعركة ضعيفاً قد أثخنته الجراح، قال ابن هشام في السيرة عن غزوة أحد، قال كعب لما انكشفنا يوم أحد، كنت أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشّرتُ به المؤمنين، حياً سوياً، وأنا في الشعّب، فدعا رسول الله كعباً بلأمته، وكانت صفراء فلبسها كعب، وقاتل يومئذ قتالاً شديداً، حتى جُرِحَ سبعة عشر جُرحاً (السيرة لابن هشام 2: 43). ولورعه وتفقهه في كتاب الله، فإنه قد قال للنبي صلى الله عليه وسلم بعدما نزلت الآية من الشعراء: {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} يا رسول الله قد أنزل الله في الشعراء ما أنزل، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن المجاهد مجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأنما ترمونهم به، نضح النبل» أخرجه عبدالرزاق في مصنفه.. وقد أوصل رسول الله صلى الله عليه وسلم، مكانة الشعر عند كعب، عندما قال له: يا كعب ما نسي ربك لك، وما كان ربك نسيّا: بيتاً قلته، قال ما هو يا رسول الله؟ قال: أنشده يا أبا بكر فقال:
زعمت سخينة أن ستغلب ربّها
وليغلبن مغالب الغلاّب
(كنز العمال 13: 81)
وقصة توبته مع رفيقيه، توسع فيها المفسرون، وجاؤوا بها من طرق وروايات عديدة، فهذا الطبراني في تفسيره، أوردها بأكثر من عشرين طريقاً، وبما يقرب من ثلاثين صفحة (14: 464 - 468، 542 - 558). والسيوطي في الدر المنثور أوردها في 7 صفحات من عدة طرق (4: 309 - 316).
وتجتزئ من رواية ابن كثير المطوّلة، بقدر ما يناسب المقام: قال عبيدالله بن مالك، وكان قائد كعب من بنيه حين عمي: سمعت أبي يحدّث حديثه حين تخلّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فقال: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة غزاها قطّ، إلا في غزوة تبوك، غير أنّي كنت تخلّقت في غزوة بدر، ولم يعاقب أحداً تخلّف عنها، وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر، وكان من خبري حين تخلّفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلّفت عنه في تلك الغزاة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتها في تلك الغزاة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلّما يريد غزوة يغزوها، إلا ورّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً فخلّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم.
فأخبرهم وجهه الذي يريد.. إلى أن قال: فقلت لرسول الله: إنّي لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر، لقد أُعطيتُ جدلاً، ولكنّي والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم، بحديث كذب ترضى به عني، ليوشكّن الله أن يسخطك عليّ ولئن حدّثتكَ بصدق تجد عليّ فيه، إني لأرجو عقبى ذلك من الله عزَّ وجلَّ، والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أفرغ، ولا أيسر مني حين تخلّفت عنك، فقال عليه الصلاة والسلام: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك، إلى أن قال: فبينما أنا بنبطّي من أنباط الشام، ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة، يقول: من يدل على كعب بن مالك. قال: فطفق الناس يشيرون له إليّ، حتى جاء فدفع إليّ كتاباً من ملك غسّان، وكنت كاتباً فإذا فيه أما بعد: فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، وأن الله لم يجعلك في دار هوان ولا مضيعة فالحقْ بنا نواسك قال: فقلت حين قرأته: وهذا أيضاً من البلاء.
قال: فيممت به التنور فسجرته به، حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا برسول رسول الله يأتيني يقول: يأمرك رسول الله أن تعتزل امرأتك، قلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: بل اعتزلها ولا تقربها، فلبثنا عشر ليال، فلما كان لنا خمسون ليلة، من حين نهى رسول الله عن كلامه، ثم صليت الصبح صباح خمسين ليلة، على ظهر بيت من بيوتنا، فبينما أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا، قد ضاقت عليّ نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت، سمعت صارخاً أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: ابشر يا كعب بن مالك، قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء الفرج من الله عزَّ وجلَّ، بالتوبة علينا، وانطلقت لرسول الله أؤمه في المسجد، فلما سلّمتُ عليه قال وهو يبرق وجهه من السرور: ابشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك، قلت أمن عندك يا رسول الله، أم من عند الله؟ قال: لا بل من عند الله، قلت يا رسول الله إن من توبتي أن انخلع من مالي صدقة إلى الله، وإلى رسوله، قال: أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك، فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر.
وقلت إنما نجاني الله يا رسول الله بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت، ثم قال: والله ما تعمّدت كذبة منذ قلت ذلك، لرسول الله إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله عزَّ وجلَّ، فيما بقي (تفسير ابن كثير 2: 397 - 398).
وقد اعتبر الكتاني كعباً من فقهاء الصحابة، كما كان موضع اهتمام الفقهاء في كتبهم، حيث أورد له ابن قدامة في كتابه أكثر من عشرين استشهاداً، كما جاء في كتاب الوقوف من مسائل الإمام أحمد بن حنبل: قلنا فالرجل يوقف جميع ماله إذا كان صحيحاً على ورثته؟ قال: نعم له ذلك كما فعل عمر، قال ابن حزم وآخرون: لا يجوز بماله كلّه لأحد بهبته، أو التصدّق به، إلا أن يبقي له ولعياله ما يغنيه، فإن أعطى ولم يبق لنفسه وعياله شيئاً فسخ كلّه، واستدلوا بما أخرجه البخاري في تفسير سورة التوبة، من حديث كعب بن مالك في قصة تخلفه عن غزوة تبوك، قلت يا رسول الله إن من توبتي أن انخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله.. قال: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك. قلت: أمسك سهمي الذي بخيبر.. فقد منعه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التصدّق بماله كله (كتاب الوقوف 2: 33).