دولة قَطر أرضاً وإنساناً دولةٌ عربية إسلامية خليجية. تربطنا بها ثلاثُ علائق: العروبة، والإسلام، والمصير المشترك. وبهذا فإن تغريدها خارج السرب يَحُزُّ إلى العَظْم، ولا يُخَلِّي نِبال الخليجيين للعدى ونبالها.
وماكان لخليجنا المستهدف من الطائفية الموتورة، والعنصرية الحاقدة، والصهيونية الماكرة، وفلول الإرهاب الدَّموي المتربص أن يجهل خطورة المرحلة، وأثرها على الأجيال القادمة، بوصفهم أمانة في أعناق القادة.
وقطر قبل هذا، وبعد هذا عضوٌ في جسد الخليج ـ شِئْنا أم أبينا ـ. وهو إذ يشتكي من تصرفات قادته، فإن سائر الجسد الخليجي، يتداعى له بالسهر والحمى. ولابد ـ والحالة كذلك ـ من محاولة بُرْئه بالحكمة والموعظة الحسنة، وتوخي أقل الجهد، والوقت، والثمن، وأسرع التصرف. ففوات الأوان، يضاعف التكاليف، ويتيح أكثر من مدخلٍ للمتربصين.
وخَيْرٌ من تعميق الهوة رَدْمُها، ومن تأزيم المواقف تَخْفيفُ حِدَّتها، ومن الإقصاء الاحتواء. فالخليج العربي بما مَنَّ الله به عليه من أمن، ورخاء، واستقرار، وتلاحم في جبهاته الداخلية، يَعْطو إلى من يصون مكتسبه، ويحافظ عليه، و يستشرف المستقبل، ويتابع تقلبات الطقس السياسي بِوَعْي تام، وحَذَرٍ شديد، واتِّقاءٍ مُحْكم.
وأحسب أن الوضع القطري بحاجة إلى هذا الصنف من القادة، لإعادة ترتيب [كوادره]، والتخطي به إلى برِّ الأمان، والعودة بفلوله إلى اللحمة الخليجية. فالعدو لا يأكل من الطرائد إلا القاصية.
والدوحة التي عَصَفَتْ بها الرياح الهوج عُضْوٌ في مجلس التعاون الخليجي، لانرضى أن تند عن المنظومة الخليجية. ومهما انتابها من تخبيصات سياسية، فهي عاصمة عربية، لايزال موقعها في الصف الخليجي شاغراً، ولا بد يوماً أن تحتله، فهي وإن ندت بها أعاصير اللعب السياسية واحدة من العواصم الخليجية، ولن ينتابنا القنوط، ولا اليأس، ولا الإحباط:
[ضَاقَتْ فَلَمَّا استَحْكَمَت حلقاتها
فُرِجت وكنت أظُنُّها لاتُفْرَجُ]
وكل الذي أتمناه على كتاب الرأي والسياسة في وطني، وطن التسامح والاحتواء تفادي المزايدات، التي تعمق المآسي، وتشفي صدور الأعداء.
لقد ساءتنا تصرفات القادة في قطر، وماكنا نتصور تصعيد الأمور إلى هذا الحد، ومع هذا لن نقطع أملنا بالله، ولا بالإخوة القطريين الذين يعتقدون أنهم بدون دول المجلس، كالقاصية من الغنم.
لقد كانت دولة قطر، ولما تزل نغماً نشزاً في الإيقاع الخليجي. ولست ممن يدعو لاحتكار الحقيقة، ولا لمصادرة الحقوق، ولا لفرض التبعية، ولكنني أرى ضرورة الاتفاق على ثوابت، لا يجوز المساس بها، وتحديد سقف لايجوز تخطيه. فمصلحة الخليج، وأمن الخليج، واستقراره فوق كل اعتبار.
وإذ لم نستطع رَدَّ المُقْتَرفِ، فلا أقل من تَوقُّع اللطف فيه. وإذ يكون من المتوقع أن تختلف وِجْهات النظر، وأن تتعدد الخيارات، وأن تتنوع المشارب، فإن من الخطأ الفادح أن تكون التعددية المشروعة سبيلاً من سبل الكيد، والمكر، والتخذيل، والتسليم، والمناصبة بالعداوة، والبغضاء، والتنابز بالألقاب، وتبادل الاتهامات، والتشكيك في النوايا، والمقاصد.
لقد نجمت فتن عمياء اجتاحت العالم العربي، وكان من واجب الحكام الخليجيين أن يخففوا من حدتها، وأن يَحُوْلوا دون دمويتها، وأن يسعوا جهدهم لإدراك الأنفس والأموال من التفاني. ولن يتأتى ذلك، وقادة الخليج في أمر مريج. والتصرف غير السَّويِّ في القول، أو في الفعل من البعض، وتأجيج الأوضاع، يؤدي في النهاية إلى ضعف الأمة، وتمكين الأعداء من الرقاب.
لقد صُدِم الانسان الخليجي بالإعصار العربي، الذي سُمِّي ربيعاً، وماكان بوده أن تبلغ الأمور مابلغته من فوضى غير خلاَّقة. وحين بلغت الأوضاع العربية الدرك الأسفل من القتل، والتشريد، كان واجب الخليجيين أن يلتفوا حول بعضهم، وأن يُصَفُّوا خلافاتهم، وأن يرفعوا ملفاتهم الساخنة، فالوقت لا يحتمل مزيداً من التمزق، ولا مزيداً من الوهن والحزن.
ودولة قطر التي ركبت رأسها، وغردت خارج السرب، تتحمل شطراً من المسؤولية، فالاختلاف معها، لا يمس مصالحها، ولا يتعدى على سيادتها، ولا يخل في أمنها.
وإذا كانت رؤيتها في القضايا العربية مخالفة للإجماع الخليجي فإن من الخير لها أن تُسِرَّ ذلك في نفسها، وألا تجاهر بها، تغليباً للمصلحة، وتقديراً لشقيقاتها الأكثر عدداً، والأكبر عدة، والأمكن خبرة، والأقوى تأثيراً في القضايا العالمية، فضلاً عن العربية. وإن كان ثمة اختلاف في وجهات النظر، فإن هناك قنوات لايعلمها إلا الأقربون من سدة الحكم، يمكن استخدامها لتفويت الفرصة على الأعداء.
لقد ملئ التاريخ الخليجي الحديث بتجاوزات قطرية، احتملها الأشقاء وأغمضوا فيها، وحاولوا إشباع رغبة القادة القطريين من الأضواء، ولكن الخروقات تلاحقت، وتم احتواء الكثير منها، حرصاً على وحدة الصف والكلمة والهدف. وكلما بلغت الخلافات ذروتها، بادرها العقلاء، وحَيَّدوها، وحاولوا تناسيها. غير أن السياسة القطرية لم ترعوِ، ولم تستوعب الدرس، ومن ثم أقدمت دول الخليج على اتخاذ قرار، أكاد أحسبه محاولة لإيقاظ الضمير القطري، والتحريض على العودة إلى الصف الخليجي.
ولست أشك أن المواطن الخليجي يعيش حالة من الاستياء والخوف، فالخليج جسم واحد، وليس من مصلحته أن يدب الخلاف بين أطرافه.
ويقيني أن في قطر مَنْ يستوعب الدرس، ولا يجد بداً من الأخذ على يد الممعنين في القطيعة. فالخليج في النهاية سفينة تمخر عباب بحر لجي من الفتن، ومن فكر في خرقها، ولم يجد من يأخذ على يده، أغرق نفسه، وأغرق أهلها، ومن ثم لابد من الحيلولة دون خرقها. وقد تكون الخطوة الأولى ذلك الإجراء الذي أرجو أن يكون مؤقتاً، وأن يكون محاولة لإعادة قطر الشقيقة إلى الصف الخليجي، وما ذلك على الله بعزيز.
لقد كان الخليجيون مِلْح الزَّادِ العربي، به يُصْلَحُ عَطَبُه. فكيف بالملح إذا دب فيه الفساد؟
ولكيلا نعمق الخلاف، فإننا لن نتقصى حيثيات الإجراء المؤلم، الذي اتخذته دول الخليج مضطرة، لا مختارة.
فمن الذي يختار التصدع، وفي إمكانه ألا يختار؟.
لقد أقدم قادة الخليج على هذا القرار المخيف، ولسان حالهم يردد:-
[إذَا تَرَحَّلْتَ عَنْ قَوْمٍ وَ قَدْ قَدِرُوا
ألاَّ تُفَارِقَهم فَالرَّاحِلُونَ هُمُ].
والمعروف عن الخليجيين الممارسات الإطفائية، وفَكَّ الاختناقات، واحتواءِ المشاكل بالرأي السَّديد، والدَّعْمِ السَّخِي. وحين تَدبُّ الفرقَة بينَ أطرافه تفقد الأمة العربية الملاذ الآمن وصمام الأمان.