قبل خمسة عقود ونيف، أي قبل أن يولد أكثر العاملين في الأمانة وفروعها، كنت من ألَدِّ خصوم البلدية، ومن أكثر المغَرَّر بهم، لملاحقة المسؤولين، وتضخيم هفواتهم، وتلقي الإشاعات، وترويجها. إذ لم أكن في عنفوان الشباب،
وفورة الطموح من المتثبتين . حتى لقد استعاذ المسؤول بأبي - رحمه الله -، ورجاه أن أخفف من حِدَّةِ النقد والمساءلة . لم أكن مفترياً الكذب، ولكنني لا أتثبت .
والصدوق في [علم الحديث ] من لا يَكْذِب، ولكنه لا يُكَذِّب راوياً . ولما أدركت بعد أمة أنّ من ورائنا من يود إزاحة المسؤول، ليظفر بمكانه، وأنّ المسألة مجرّد صراع من أجل بريق المسؤولية، ندمت ندامة [الكسعي]، وعدت أُرَقِّع ما يمكن ترقيعه من تلك التجاوزات، حتى لقد أصبحت المسألة كـ [طيلسان بن حرب ] . ومن يومها طويت كشحي، وانصرفت نفسي عن تلك المهايع، ولم تَعُد لديّ الرغبة في مناكفة المسؤولين، لا ثقة بهم، ولا رضى عما يفعلون، ولكنه الخوف من أن أصيب قوماً بجهالة، وأنا لا أشعر . وكم ناشدني المتحمسون، والناقمون إشهار شباة القلم في وجه المسؤولين، وتسليط الضوء على الهفوات . ولقد أكون على يقين من التقصير, أو الخطأ، ومع ذلك ينتابني ما ينتاب [زهير بن أبي سلمى ] من خوف، حين بالغ في هجاء [بني حصن] بقوله :-
[ وما أَدْرِيَ ولَسْتُ إِخَالُ أَدْرِي
أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ ]
واستغراب المحرضين لي من لزومي الصمت على هفوات المسؤولين, وتقصيرهم في مسؤولياتهم في كافة المرافق الخدمية مَرَدُّه إلى جهلهم بِرَدَّةِ الفعل التي تَعَرَّضْتُ لها، واستيائي من استخفاف بعض الكتبة بمسؤولية الكلمة . ولربما يكون لدى الملوم عذر، ونحن نلوم . وكم من مسؤول ينطوي على الحقيقة المرَّة، ولكنه لا يستطيع التفوُّه بها, فَفمُهُ مليءٌ بالماء . ومع التردد والإحجام أكِنُّ للمتابعين والمطالبين والناقدين كل الاحترام والإكبار, فمواجهة المسؤول بأخطائه، وتذكيره بتقصيره عمل وطني بطولي, له تبعاته، فقول الحق لم يترك للقائل صديقاً. ولا شك أنّ تعقب المسؤولين من جهاد القلم، ومن إنكار المنكر، ولكن ذلك يتطلّب تصوُّر القضايا قبل البت فيها، تمشياً مع القاعدة الأصولية [الحكم على الشيء فرع عن تصوُّره ] مع حسن الظن بالمسؤول، وتقديم التساؤلات على الأحكام، وتمكين المسؤول من الدفاع عن نفسه، فذلك العدل المطلوب.
المسيء أنّ ما يتدفق في أنهر الصحف من مجازفات ومبالغات في القدح, أو في المدح على حد السواء، لا يأطره خوف، ولا تحكمه حسابات، ومن ثم اختلطت الأمور، وَوَجَدَ المقصر ملاذاً بمقولة :- [ هذا كلام جرائد ]. وحين يجنح مثلي إلى الصمت استبراءً للدين والعرض يَهُبُّ العشرات, لتلقِّي الراية باليمين، والإيجاف باللسان والقلم، إذ لو خلت لانقلبت.
ولو أنّ الكتبة تحرّوا الصدق، وتصوّروا الأشياء قبل الحكم عليها أو لها, لكان لما يكتبون وقع السهام .
ما أود التَّحلِّي به، ونحن في ضيافة الأمانة في جلسة مكاشفة, يملك فيها كل الأطراف حرية القول، أن نصدق مع أنفسنا، وأن نَطَّرِح المجاملات، وأحاديث التورية، وممارسة التقية . فالزمن المواتي يتطلّب الصدق والأمانة والجد، وتفادي تفويت الفرص . والخاسر من الطرفين من يُدْهِن أو يُسَوِّفُ، أو يضع الأمور في غير مواضعها. وما أضر بالأمة إلا خيانة الأمانة، واستغلال المسؤولية للمصلحة الخاصة, وإسناد الأمر إلى غير أهله، والتسامي كالدخان فوق المساءلة والنقد . ومن لم يتعظ من قول المربي :- [لحْمٌ نبت على السُّحْتِ النارُ أولى به ] ومن قول الباري جلّ وعلا {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْم الْقِيَامَة } فلن يَثْنِيَه قول البشر، ومن أطاب مطعمه أجيبت دعوته . والزاهد حقاً من ابتلي بالمسؤولية، ثم عَفَّ واحتسب .
لقد فتحت جلسة المكاشفة في تلك الليلة الممتعة شهية القول عندي، بعد أمة من الصمت, ولكن البعض من الزملاء المدعوين أعدوا لذلك اللقاء عدّته, وزَوَّرا في أنفسهم كلمات، وملاحظات، وتطلّعات، ونقبوا في تجاويف المسؤولية عما يساورهم من هموم، وتَلاحُقِ المداخلين فَوَّتَ عليَّ فرصة المشاركة .
وهنا لا أريد تكرير القول الذي تبودل بين المدعوين وأمين المنطقة، ومجلسها البلدي، وكبار المسؤولين, لأنه قول أرسل, وعُلِم، وأخذه المستهدفون بعين الاعتبار، وتعهّدوا بتمحيص مجمله، وتنفيذ المستطاع منه. وأنا متأكد أنهم لو أخذوا بأيسره, لحققت الأمانة خيراً كثيراً، وبالذات مداخلة الشيخ [محمد البشر] والدكتور [علي العجلان] .
الشيء الذي أقدمه بين يدي نجواي شكري وتقديري لهذه الدعوة الكريمة، ولرحابة صدور المسؤولين أمام فيض الطموحات والتطلعات والانتقادات، والثناء الصادق على إنجازات ماثلة للعيان من الأمين السابق المهندس [أحمد السلطان]، ومن الأمين اللاحق المهندس [صالح الأحمد]. ولأنهما من طلابي كما يزعمان، فلن أمضي في الثناء . ومن لا يعرف الفضل لذويه، لا يكون من ذوي الفضل، وعين الرضى قد تُغْمِض عما سوى المُرْضِي، ولن أكون هذا، ولا ذاك . سأعترف بالفضل, وسأنقب عن التقصير، ويقيني أن القائمين أرحب صدراً، وأقدر على استيعاب المؤاخذات، والسعي لتلافيها .
ما لم يُعرج عليه المتسائلون تقصير القادرين على التمام، المتمثل بقلة الاعتمادات، أو تقطيرها، أو ترحيلها من عام لآخر، بحيث لا يستطيع المسؤول المنفذ إنجاز المشاريع في وقتها .
وما يباهي به أمين المنطقة من استئثار العاصمة بما يزيد على الثلث من ميزانية المنطقة لمشاريعها، وظنه أنّ ذلك إنجاز باذخ، حكم فيه قولان ، إذ لو نظر المسؤول المعتمد للمشاريع إلى لغة الأرقام, وإلى ما تقدمه مرافق العاصمة لكافة المراكز, والمحافظات، ولأطراف الإمارات المجاورة من خدمات طبية وتجارية وتعليمية لصغر هذا الرقم في عينة .
و( بريدة ) التي تبدو كئيبة بإزاء المحافظات والمراكز، وكل مرافقها مأزومة، مرد كآبتها، ومأزوميتها إلى القسمة الضيزى المتبعة في توزيع الميزانية. وبودي لو استقلت المحافظات الكبرى في المنطقة بميزانياتها، وروعي في اعتماد المشاريع لغة الأرقام، والامتداد العمراني، والكثافة السكانية، وطبيعة العواصم القائمة على الجذب، والهجرة، والتزود.
وفوق هذا فمنطقة كـ[القصيم] بمدنها المتعددة، وحركتها الصاخبة، ونهضتها المتنوعة لم تظفر كغيرها بـ [مدن اقتصادية]، ولا بـ [مدن صحية ], ولا بمشروعات [ملياريه] . فيما حُظي مَن دونها بشيء من ذلك .
ما لا ننكره تعدُّد المشاريع، وتنوّعها، وشمولها. ولكن الطفرات تسبق التقديرات, وتفوق الحسابات. والدولة بريئة من تقصير الحكومة، ويكفي أنّ الملك - حفظه الله - ووفقه حَمَّل الوزراء كافة المسؤولية، وناشدهم الجد والإخلاص فيما يأتون، وما يذرون .
ولتأكيد الطفرات يكفي أن نشير إلى زيادة طلاب [جامعة القصيم] الناشئة على سبعين ألف طالب وطالبة.
إنّ ما نشهده من نقص، أو تقصير، لا يكون مرده بالضرورة إلى إهمال، أو تهاون، أو تلاعب من الأمانة، ولكنه في اعتماد المشاريع، وتغييب لغة الأرقام، وتقصير الشركات المنفذة.
والأمانة على الرغم من شح الاعتمادات أنجزت من المشاريع العملاقة ما لم تنجزه الأمانات الأكثر ميزانية . فـ[مدينة التمور], و[مدينة الأنعام], و[منتزه الملك عبدالله] كلها شواهد إثبات على إنجازات الأمانة، التي لا تحول دون المزيد من النقد والمساءلة .
فمدينة كـ[بريدة] سكانها أكثر من نصف سكان المنطقة، ومرتادوها قريب من ذلك بأمسّ الحاجة إلى مشاريع تسهم في فك الاختناقات، شريطة ألا تؤثر على حقوق المحافظات، التي يتطلع أبناؤها إلى مزيد من الخدمات التي تسد حاجاتهم، ولا تلجئهم إلى الرحيل للتوفر عليها هنا، أو هناك .
فالمنطقة تمر بضوائق صحية، لا تحتمل، وتعاني من الإبطاء في تنفيذ الطرق، والكباري، والشوارع المحورية،كشارع عمر، وعلي، وفيصل، والنهضة، والدائري الداخلي، والخارجي . ولن تستقيم الأمور إلاّ بمساءلة المقصرين, ومحاسبتهم على التسويف، والتعطيل.
وإذ يكون في النفس حاجات فإنّ المرجو أن يكون في المسؤول فطانة بحيث يكون سكوتنا جواباً عندها وخطاب . لقد كتبت قبل أربعين سنة ونيف بذات الجريدة مقالاً تحت عنوان [بريدة المستضعفة ] وكم تراودني الرغبة في كتابة مقال بالعنوان نفسه .
بقي أن أكرر الطلب بتفعيل المجالس النيابية، ودعم اللجان الأهلية, لتكون لسان صدق للمواطنين، إذ لم تُنْشَأ المجالس لتكون [تيمية ] ثم لا يأبه بها المواطن، ولا يعول عليها .
وفوق هذا وذاك لابد للمسؤول من المكاشفة، والشفافية، والتواصل مع النُّخب، وسماع التأوهات، ورد الصوت، وترويض النفوس على أنه لا أحد فوق المساءلة والنقد . فالمواطن يكبر عليه إعراض المسؤول، ولن يبتغي نَفَقاً في الأرض، ولا سلماً في السماء ليأطره على الحق .
فالله وحده الهادي إلى سواء السبيل.