ونحن حين نخص بالحديث شعراء الرسول، نرى أنه من متطلبات البحث الإشارة إلى شعراء عاصروا شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا من شعرائه، وقد يكون البعض منهم خصوماً للإسلام، وهؤلاء سماهم [يحيى الجبوري] بشعراء المعارضة في مكة والطائف والقرى اليهودية، ومنهم من أدركته الرحمة فأسلم، وحسن إسلامه . ومنهم من حَقَّتْ عليه الضلالة.
والأبعاد الدلالية والفنية ليست وقفاً على شعراء الصحابة وحدهم، فالمعاصرون لهم قد تُؤثِّر عليهم أجواء الدعوة،ذلك أن في الجاهلية مُثُلاً أخلاقية، استلحقها الإسلام، تحت ذريعة [الحق ضالة المؤمن]، و[إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق] .
وفي ظل الصراع بين الحق والباطل تنازعت القُرى والقبائلُ والدياناتُ الشِّعرَ. ويبقى لـ[أم القرى] وللمهاجرين والأنصار [القدح المعلى]. لقد أسلم من أدركته الرحمة من الشعراء، وصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم،وتلقوا أحكام الإسلام،وشعائره،وضوابطه الأخلاقية،كما تلقى رسول الله القرآن مُنَجَّماً، وهو ما استنكره المشركون :- {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً }.والشعراء إذ دخلوا في الإسلام، كانوا في البداية حُدَثاء عهد بكفر، ومن ثم لابد أن يتلقوا التصورات الإسلامية للخالق جل وعلا،و للإنسان،وللكون, وللحياة . ولا شك أنه أصح تَصَوِّرٍ،وأكمله . لأن هذا التصور يستدعي مفهوم {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وفق ما جسده [ابن القيم] في كتابه [مدارج السالكين]،ويستدعي مفهوم إنسانية الإنسان {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} ويستدعي مفهوم العلاقة الواقعية بين الإنسان والكون والحياة. وهي علاقة تفاعل وتنمية . فمهمة الإنسان وفق هذا التصور تقوم على ثلاثة مرتكزات :-
_ عِبَادةِ الخالق .
_عِمَارة الكون .
_هِداية البشرية .
وما لم تتواشج العبادة والعمارة والدعوة فإن المسلم يفقد شطراً من هويته،ولأن الإسلام شمولي،فإنه لا يقيم وزنا للانتقاء, والإيمان ببعض التكاليف : {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}. بهذا القدر الدقيق تفهم شعراء الرسول مهمة الشاعر، ونهضوا بها على وجهها، ولو ذهبنا نقدم النماذج،لبعدت علينا وعلى القراء الشقة، ولم نف بالمطلوب . وشعراء الرسول صلى الله عليه وسلم ماثلون بإبداعاتهم،وقد جمع شعرهم ودرسه عدد من الدارسين، بتوجيه ورعاية من [جامعة الإمام].
وتَصَوُّرُ الأبعاد الدلالية والفنية من الأشياء الممكن الوصول إليها وتصورها. ومقاربتنا لها من باب التذكير ،لكي يَكُون تصور المستوى الشعري في عهد الرسول وفق ما هو عليه، لا وفق رؤى جائرة،أطْلقت أحكامها عند غياب الشاهد.
وشعراءُ الصحابة أُشْرِبوا في قلوبهم الإيمان, وفق التصور القرآني، ومن ثم لم تند بهم التصورات الجانحة، فقد جمعوا بين الالتزام وسلامة التصور . والتصور لعوالم الغيب والشهادة لم يكن صدفة, ولا طرفة، إنه وليد حرية منضبطة، والتزام متوازن. وفيض الشعر الإسلامي فرض رؤية نقدية،لم تكن معروفة من قبل, ولا يمكن أن تنبثق دون أن يكون لها متكأ إبداعي،أسهم في تجسيد الرؤية النقدية، وهو متكأ ملتزم، وليس مُلْزِماً.
صحيح أن آيتي الشعراء [234_237] وضعتا حدًّا للبعد الدلالي، إلا أن الشعراء متفاوتون في حدود الالتزام . ولما تَخَلَّق النقد الملتزم، وقامت أسسه، تفاوت النقاد في الرؤية، وذهبت بهم الرغبات مذاهبها،فمن داع إلى الالتزام, ومن متوسع فيه، ولكنهم جميعا يحذرون مَغَبَّة الغواية والهيام في أودية القول المتفلت على القيم.
فـ [ابن قتيبة] وآخرون،جنحوا إلى الالتزام، ولم يجدوا بداً من حَمْل الشعراء عليه، فيما جنح آخرون إلى الفصل بين الدين والشعر, كـ[قدامة] و[القاضي] و من شايعهم .والمتوسطون من عرفوا كم هو الفرق بين لغة الفقهاء والمؤرخين من جهة،ولغة الشعراء من جهة أخرى, كـ[الأصمعي] و [الباقلاني] .
أن هناك لغة عقل، ولغة عاطفة، ولغة فن, ولغة علم، وخيال وحقيقة، ولقد أثر عن [الأصمعي] تحرجه من رواية الشعر المخالف للتصور الإسلامي . وقد فصل القول في هذا المجال الدكتور [ هدارة] ومن بعده زميلنا الدكتور [عبدالباسط بدر] ولخص كل هذه الرؤى الأستاذ الدكتور [حلمي القاعود] في كتابه [الأدب الإسلامي،, الفكرة والتطبيق] ومارس الدراسة التطبيقية الدكتور [ الحامد] في كتابه [الشعر الإسلامي في صدر الإسلام] ومن هؤلاء جاءت هذه الإشارات العابرة .
ومن المسلمات أن الدين لم يكن بمعزل عن الشعر, تلك حقيقة لا يجادل فيها إلا مماحك، ولو كانت العزلة حقا،لما مارس الخليفة (عمر ) حقه في قمع شاعر هَجَّاء كـ[ الحطيئة]، قد يكون الدافع لذلك الدعوى التي رفعها المهجو ضد الشاعر, غير أن (عمر ) رضى الله عنه بادر الجزاء دون ادعاء، وذلك حين عزل أحد ولاته لتغنيه بالخمر .هذا التدخل الجزائي في البعد الدلالي أسرع بالشعراء إلى الاستقامة . وتداخل الشعر الجاهلي مع الإسلامي في تبني القيم حفز [طه حسين] على مَنْهَجَةِ الانتحال، والإيغال فيه .
وحين نلتمس التحولات بشقيها،يتجلى لنا ما خلفه الشعراء من شعر قيل في المدح المتوازن،والرثاء المؤبن, والدفاع القوي عن حوزة الدين والدعوة بالحكمة، والتمجيد المطلق لبارئ الكون، وشعر الحرب، والفتوح، والهجرة . وتلك مجمل الأبعاد الدلالية .
نجد ذلك في شعر [حسان] و [ابن رواحة] و[كعب بن مالك] و[العباس بن مرداس] وغيرهم من المقلين كـ [كعب بن زهير] و [النابغة الجعدي] .
أما من حيث الأبعاد الفنية واللغوية،والشكلية فإن من الصعوبة استبانة التحولات بالقدر المؤمل، وقد أوجز [الجبوري] بعض التحولات الفنية واللغوية،ولم يفصل، ولم يسق الشواهد, وظلت مواجيزه مَرْجعا لكل المتحدثين عن شعر المخضرمين،حتى بسط القول فيها الدكتور عبدالله الحامد الذي نهض لجمع شِعْر الدعوة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم تفرغ لدراستها آخرون من بعده.
والحديث عن الأبعاد الفنية يدعونا إلى التفريق بين شعراء البادية الذين ألموا بالمدينة،ثم عادوا إلى مراعيهم ومواشيهم أمثال [لبيد] و[الجعدي] و[العباس بن مرداس] ،وشعراء المدينة الذين أقاموا مع الرسول صلى الله عليه وسلم،وخالطوا الوفود وذاقوا طعم التحضر،أمثال [حسان] و [كعب بن مالك] و[ابن رواحه].فالشعر المدني اتسم بـ[العذوبة و السلاسة ودقة الألفاظ ووضوح المعاني]أما شعر المتبدين من الصحابة، فلم تلن عبارته، ولم تتضح معانيه، بل ظلت الخشونة و الجزالة مصاحبة له،وما لم يشر إليه [الجبوري] ومن بعده [الحامد] تشكيل النص،أو بناء القصيدة، إذ طرأ على ذلك بعض التغيير في [المطالع]و[المقاطع]. فما كانت المطالع طللية، ولا خمرية, ولا غزلية بالشكل السائد في الجاهلية, ولا عبرة بما انفرد به [كعب بن زهير] في لاميته الاعتذارية, وقد نفى [الجبوري] أن يكون هناك تطور واسع في القصيدة العربية من الناحية اللغوية والشكلية،وهذا ليس على إطلاقه، إذ بناء القصيدة يحتفظ ببعض [عمودية الشعر]، ويخرج على بعض مكونات العمودية،كما أجملها [المرزوقي] في مقدمته لشرح الحماسة،وفصلها [عاشور] في شرحه للمقدمة،وتقصاها [محمد مريسي الحارثي] في أوسع دراسة أقيمت حول العمودية .
وتبرير [الجبوري] لهذا التجديد المحدود مرده إلى نضوج الشعراء [حَسَّان، وكعب، ولبيد] في الجاهلية،ومن الصعوبة بمكان تحولهم عما ألفوه،وأتقنوه،وشبوا عليه في الجاهلية .
خلاصة القول :أن التحولات الدلالية, في الأفكار والعواطف والأخيلة وسائر الأغراض الشعرية السائدة واضحة المعالم،وقد بسط الحديث عنها عدد من الدارسين ربما يكون من أكثرهم توازنا الدكتور [عبدالله الحامد]،ذلك أن الإسلام يأطر على الحق، ويقمع التفحش, وقالة السوء، وما إهدار الرسول صلى الله عليه وسلم لدم بعض الشعراء الذين آذوه،وتصدوا للدعوة، وما سجن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لـ[الحطيئة] وعزله لأحد ولاته إلا دليل على مبادرة الإسلام لترشيد مسار الشعراء، وحمل الشعراء على البعد عن قول الزور،وذلك أوضح دليل على التحول الدلالي . وهو تحول حدَّ من انطلاقة الشعراء, وحملهم على تجنب ما يعكر صفو العلاقات بين الإنسان وخالقه،وبينه وبين أخيه الإنسان.
أما من حيث التحول الفني فكم هو الفرق بين شعراء المعلقات، ومن أدركتهم الخضرمة . و [طه حسين] من أقوى أدلته لإثبات [الانتحال] وجود المعاني الإسلامية والأساليب والتراكيب القرآنية في الشعر الجاهلي .
وشيء آخر هو تحول المطالع والمقاطع من البكاء على الأطلال والتغني بالخمر والغزل إلى مطالع إسلامية تركز على القيم الإسلامية، والإشادة في المقاطع بالرسول،أو بالهداية إلى الإسلام. وقراءة شعر [حسان بن ثابت]رضى الله عنه في الجاهلية والإسلام أقوى دليل على استبانة التحول الدلالي والفني .
ولأن تلك الظاهرة من المسلمات النقدية،فقد قَلَّتْ الإشارة إليها، ولم يعترض على استبانتها إلا من قللوا من تأثير الإسلام على الشعر،وتلك رؤية مفضوله .فالتحول واضح كل الوضوح، ولاسيما في المعاني والموضوعات .
والتحولات وإن قلَّت في المباني، إلا أنها ليست بحجم المتغير الدلالي.