عِشْقُ الكلمة: استيعاباً وإنتاجاً، يُنْشئ علائق وُدٍّ، أو توتر. وقد تمتد القطيعة، مثلما ينمو الود. وفي الحشود الثقافية تجد المثقفين كالطيور، تقع على أشباهها. إذ كل زمرة تتناجى: إما بالإثم، والعدوان، أو بالمعروف. وهذا التوصيف نسبي، وليس قطعياً.
فما تراه إثماً، يراه غيرك معروفاً. ذلك أن الشأن الثقافي لا يَسْتَمد أحكامه من النص التشريعي?، وإن ارتبط به، أو بمقاصده. و الأحكامُ في الجملة إما رؤى أو وانطباعات.
ومن الناس من يوزع رؤيته في خطابات كثيرة، كجسم «المتنبي»، بحيث لا يقطع المتابع لهذا الصنف باتجاه. وقد تكون التَّعددية، واتساع الأفق من المحامد، فيما يراها البعض من النفاق والمداهنة والتَّقِيَّةِ. والشأن الثقافي قابل لكل الاحتمالات، والسَّعيد من رَحُبَ، واحتوى، ولم يحتكر الحقيقة.
ولأنني محظوظ، فقد هُيَّء لي حضور العديد من الفعاليات التي تنفذها بعض الجهات: المحلية والعربية. وربما تكون لي إسهامات فيها، قد تَحْمِل المختلفين مَعِيَ على تَصَيُّد العثرات، والنفخ فيها. وحين أكون ضيفاً، لا مشاركاً، أتعمد المداخلات الساخنة، بحيث أتخطى من الهامش إلى المتن، ثم أكون بذلك أقوى أثراً، وأكثر حضوراً من المشاركين.
ما يحز في النفس غياب الكبار عن تلك الحشود: إما بالموت، أو بالعجز، أو بالتغافل عنهم، وحضور من دونهم، وحين يتقدم بالمرء العمر، يُحس بالغربة، ويشعر بالفراغ، رغم الامتلاء.
لقد حَضَرْت منتديات، ولقاءات داخل المملكة وخارجها، ذات طوابع متعددة، وأهداف متنوعة، وكنت فيها دون العمالقة، وفوق المبتدئين.
وممن عِشْتُ الخلطة معهم، واْمتَلأتُ بهم إعجاباً، وإكباراً من الأموات علامة الجزيرة [حمد الجاسر]، والشاعر اللغوي الأديب [عبدالله بن خميس]، والأديب الوديع [عبدالعزيز الرفاعي]، والمربي القدير [عثمان الصالح]، والشاعر المؤرخ [أحمد العقيلي]، والإعلامي الفذ [عبدالله بالخير]، والشاعر السفير [حسن القرشي]، والشاعر الثَّر [محمد حسن فقي]، والموسوعي الراوية[أحمد المبارك]، والكاتب الساخر[محمد حسين زيدان]، والكاتب الجاد [عزيز ضياء]، والرائد السردي [عبدالقدوس الأنصاري]، والمتعدد المواهب [غازي القصيبي]، وآخرون ندوا عن الذاكرة، رحمهم الله جميعاً.
وهم إن فارقونا بأجسادهم، فقد تركوا إرثاً يُكَرِّس حضورهم، ويحيي ذكرهم، ومامات من خَلَّف أبناءً صليبةً، أو بنات أفكار أصِيْلة. ولي مع هؤلاء ومع آخرين غيرهم ذكريات عذاب، لم أحتفظ إلا بالقليل منها، فالذاكرة تشيخ مع البدن، وتتلاشى فيها الذكريات.
وما أفلح إلا من قيد الأوابد، أمثال الدكتور [الخويطر] في وسمه على أديم الزمن. ولولا قيد بعضها لغابت مع أجسادهم الذاهبة.
عرفت العلامة [حمد الجاسر] قبل أربعين سنة عام 1393هـ حين زرته في بيته للاستزادة من علمه في سبيل استكمال متطلبات رسالة الماجستير [اتجاهات الشعر المعاصر في نجد]، كنت يومها كبغاث الطير، مَنْكبٌ غَضٌّ، وجناحٌ قصير. لقد انتابني الخوف، وأنا أرقب طلعته، إذ دخلت بيته بعدما أذن لي حاجبه. ولم يكن في حسابي أنه رجل ودود، دمث الخلق مع من يحب، قصير القامة، رث الثياب، يغمرك ببساطته، وتواضعه، وحسن حديثه. وهو إذ أحس بارتباكي، وتلعثمي، صرف الحديث من الجد الصارم إلى التبسط والظرف، بحيث سَخِر من ضآلة ما قدم لي من فاكهة، يندر ظفري بها، وروى لي حكاية شعبية ممتعة. ثم أخذ يَصَّعَّدُ بالحديث، ولما شارفت على الانتهاء من استفساراتي، فتح أمامي بوارق الأمل، وأبدى استعداده لاستقبالي، متى شئت. قلت في نفسي:- تبت يدا المتعملقين على السيقان الخشبية، هذه الشخصية الفذة، تبادرك بالنفع، وكأنك تعطيها الذي أنت سائله.
بعد هذا اللقاء المربك، تعددت اللقاءات، وتنوعت المهمات، وأكثرت من التردد على [دارة العرب]، وبخاصة في خميسيته. وتعهد ابنه [معن] من بعده بالتواصل معي، واستضافتي، لعلمه بمكانة أبيه عندي، واحتفائه بي كلما زرته.
ومن الذكريات الأجمل معه، حين كنا معاً في [فندق السودة بأبها] بدعوة كريمة من أمير المنطقة آنذاك، الأمير المتعدد المواهب والقدرات [خالد الفيصل]. حيث كان رحمه الله يحمل معه أحد مجَلَّدات [تاج العروس] للاستدراك عليه، فيما يخص جغرافيا الجزيرة العربية، ولما كان بصره ضعيفاً، وأطرافه مسترخية، قمت بالقراءة عليه. ومتى استدرك شيئاً على [الزَّبيْدِي] استوقفني، ليسجل على الهامش بقلم الرصاص ما يلاحظه، أو ما يود إضافته.
ويقيني أن الشيخوخة أدركته قبل أن يكمل قراءة التاج، وقد أصدر ما استدركه في كتاب مطبوع. وكنت أتمنى على القائمين على مجلسه ومجلته استكمال ما بدأه. وتلك الخليقة من سنن السلف.
فالمجموع لـ[النووي] أتمه [السبكي] على ما أذكر، وتفسير الجلالين أتمه [جلال الدين السيوطي] وتفسير البيان لـ[الشنقيطي] أتمه تلميذه [محمد سالم عطية]، على أن اللاحق لم يبلغ شأو السابق، ولكن كتب الأمهات لا يجوز أن تترك مبتورة.
وحين كنت رئيساً لـ[نادي القصيم الأدبي] ألححت عليه، لزيارة المنطقة، وتجديد ذكرياته في بريدة بالذات، فلقد أشار إلى أنه تلقى بداية التعلم بـ[مدرسة الصقعبي] في بريدة، ولكنني لم أظفر منه بالزيارة، واكتفى بالموافقة على طبع كتابه [مع الشعراء] الذي ذَكَرَني فيه بخير. وقد طَبَع من الكتاب عشرة آلاف نسخة، زود النادي بنصفها، وسَوَّقَ النصف الآخر. فكنا كلما عرضنا على أحد المسؤولين شراء كمية من الكتاب. قال:- سبقكم الشيخ [حمد الجاسر]، فكان معنا كـ[عكاشة] ولم نستطع فعل شيء، لمكانته في نفوسنا، ولما استشرت الشيخ [عبدالعزيز المسند] رحمه الله، بوصفه عضواً في مجلس الإدارة. قال:- يكفي النادي أنه طبع له. ومن ثم بقي الكتاب في مستودع النادي، ولست أدري ماذا فعل به الإخوان من بعدي.
والعلامة الجاسر من الشخصيات الأكثر حضوراً في المحافل العربية والعالمية، لسعة اطلاعه، واهتمامه بجغرافيا الجزيرة العربية، وعضويته في كافة المجامع اللغوية، وإسهاماته المتميزة في فعالياتها. ومن قرأ [سوانحه] أدرك مبلغه من العلم، وَجِدَّه في تحرير مسائله، وتأصيل معارفه، وحدته في النقد، وهو بهذه الإمكانيات يعد من العمالقة الذين لا تُسَدُّ الأمكنة التي سدوا.
وحين ألقيت في خميسيته محاضرة عن [إسهامات علمائنا ومثقفينا في المشاريع الثقافية] أشرت إلى مشروعه المتميز عن جغرافيا الجزيرة العربية، الذي جند له لفيفاً من ذوي الاهتمامات الجغرافية، كالشيخ [محمد العبودي] والأديب [عبدالله بن خميس] والمؤرخ [سعد بن جنيدل] والشاعر [أحمد العقيلي].
الشيء الذي يحز في نفسي إلحاحه عَلَيَّ كلما زرته، لتمكينه من تكريمي، ودعوة من يحب، وتسويفي، وكان بودي تحقيق رغبته، لقد أدركته الشيخوخة، وأقعده المرض، وقضى نحبه، دون أن أشرف بهذه الدعوة الكريمة، رحمه الله رحمة واسعة، ونفع الله بما خَلَّفَه من كتب محققه وأخرى مستأنفة، ولما يزل مجلسه ومجلته يسهمان في إحياء ذكره، ومواصلة عطائه، جزى الله القائمين عليهما خيراً.
وعندما هَمَّ مع الأستاذ [عبدالله بن خميس] بإنشاء نادي أدبي في الرياض على غرار [نادي جدة الثقافي] الذي سعى لإنشائه الأستاذ [محمد حسن عواد] والأستاذ [عزيز ضياء] رحمهما الله، وجه خطابات لكافة الأدباء لطلب الحضور، وتداول الرأي، وإبداء المشورة، وقد تلقيت دعوة كريمة بتوقيعهما، ظناً منهما أنني مقيم في الرياض، إذ كنت وقتها طالباً في قسم الدراسات العليا بجامعة الملك سعود، ولم يصل الخطاب إلي إلا بعد أربعة أشهر، بواسطة الدكتور [عبدالله بن علي الحصين] عندما كان طالباً في جامعة الملك سعود، ولم يكن لي شرف المشاركة.
ولما أزل احتفظ بالخطاب لأهميته، وقد أخذ نسخة منه الأستاذ [خالد الرفاعي] الذي ينوي إصدار كتاب عن حياتي الأدبية، وهو من الطلاب الجادين الأوفياء، إذ ما أحوج الأساتذة الذين غفل عنهم الناس إلى الأوفياء من طلابهم، ليحيوا ذكرهم، ويردوا بعض فضلهم، وقديما قيل:-
[من علمني حرفاً كنت له عبداً] ولما كان العقوق متفشياً، والإهمال بادياً، أصبح من أوجب الواجبات على المريدين النهوض بهذه المهمات. وكم تنبري مجموعة من الطلاب لإصدار ملف، أو كتاب عَمَّن أسهم في بناء معارفهم. ومما أذكره وأشكره لطلابي في قسم الأدب بـ[جامعة القصيم] إصرارهم على أن أبقى معهم بعد التقاعد أستاذاً غير متفرغ، وفخري أن في القسم أكثر من عشرين دكتوراً شرفت بتعليمهم، وابتهجت بتميزهم. ومن شغلته الحياة من آلاف الطلاب، واحتفظ بالعلاقة الطيبة، ونَمَّاها، لا يقل عما سواه. ولكن من شرح للعقوق صدره، وانطبق عليه قول الشاعر:-
(وكَمْ عَلَّمْتُه نَظْمَ القَوافِي .. فَلمَّا قالَ قَافِيَةً هَجَانِي)
فهذا الصنف مريض القلب واليد واللسان، شفاه الله، وهداه.
لقد كنت على صلة وثيقة بأساتذتي في كافة المراحل، وبخاصة المرحلة الإبتدائية، وكلما لقيت أحدهم أُقَبِّل رأسه، ولا أتقدمه في مجلس. أذكر من هؤلاء الأساتذة [محمد بن ناصر العبودي] و [عبدالوهاب أبوسليمان] و[عبدالله بن سليمان الربدي] و[محمد بن عثمان البشر] و[صالح الربدي] و[صالح الوابلي] و [صالح الطويان] وهم جميعاً أحياء يرزقون، وواجب طلبة العلم أن يتواصلوا مع الأحياء من أساتذتهم. فالفضل لا يعرفه لأهله إلا ذووا الفضل. علماً أن البعض من أولئك لا يحمل الشهادة الابتدائية، وما أكثر المباهين والمدِلِّين على من علموهم في مراحلهم الأولى.
لقد أدركت كغيري عقوق الطلبة، وعدم احترامهم لأساتذتهم، الأمر الذي انعكس أثره على العملية التعليمية، ولما كانت التربية تسبق التعليم، أصبح من الأهم، تقديمها عليه، إذ لا خير بعلم لا تُجَمِّله أخلاق. والأشد سوءاً ألا يكون المعلم مهتماً بأخلاقياته، فضلاً عن أخلاقيات من يُعَلِّم، وقديماً قال شوقي:-
(وإذا المعلمُ سَاءَ لَحْظَ بَصِيرةٍ.. جَاءتْ عَلَى يَدِه البَصَائِرُ حُوْلا).