في هذه الأيام ينبت مرة أخرى فرع فتنة جديد، هذه المرة بين أبناء العمومة المتشابهين في كل شيء، وفي منطقة مستهدفة بأطماع متعددة المصادر والمخاطر، منطقة ما يسمى دول مجلس التعاون الخليجي.
الفرع الناشز في هذه الفتنة الجديدة يحاول الاستقواء بتنظيم ديني ذي أجندات سياسية وانتشار باطني متشعب تحت الأرض، لا هو قطري ولا خليجي ويتنكر لانتمائه العربي، مدعياً الاستظلال بدولة الخلافة الإسلامية الشاملة.
الطرف الخليجي الناشز يحاول استغلال هذا التنظيم لمجده الشخصي، أو هكذا يخطط، وبالتأكيد ليس لمصلحة وطنية لبلده وشعبه ولا لمنطقته، بينما حليفه السياسي الديني يستغله بالفعل ويمتصه حتى الثمالة، والطرفان المعنيان هما دولة قطر الخليجية وتنظيم «الإخوان المسلمون».
كلا الطرفين، قطر والإخوان له ارتباطات ومعاهدات وتعاملات مع قوى من خارج الإطار الخليجي والعربي بكامله، قوى ليست عربية ولا متدينة ولا مسالمة، وهي بالضبط نفس القوى التي تربط وتحرك قطر والإخوان بنفس الخيوط من تحت الأرض، وتستغلهم لابتزاز دول مجلس التعاون الخليجي باستفرادها واحدة بعد أخرى من داخلها.
الحديث في هذه الفتنة الأخيرة ذو شجون تاريخية يستدعي بعضها بعضا. يحتوي كتاب التاريخ السياسي الإسلامي ألفاً وأربع مئة وخمسا وثلاثين صفحة، أربعون أو خمسون منها فقط بيضاء، والبقية حمراء أو سوداء، وفي أفضل الأحوال رمادية.
أشدد هنا على استعمال توصيف «التاريخ السياسي الإسلامي»، وليس تاريخ الإسلام، لأنني أريد، فرز الممارسات والتحالفات السياسية الدنيوية عن التعاليم الدينية التي لم يطبق منها سوى ما يخدم الدنيا، بما في ذلك التدخل أحياناًً في تفاصيل العبادات. هذا هو التاريخ الإسلامي السياسي الحقيقي، وليس ذلك الذي ينفخ فيه ويلقن للأجيال في المدارس للتمصلح الدنيوي.
يلفت الانتباه أن تلك الشرارة التي اتقدت بمقتل الخليفة الراشد الثالث، وسميت الفتنة الصغرى لم ينتج عنها تحذير جمعي وكف عن التمصلح السياسي بالدين. ما هي إلا شهور بعد ذلك وشبت الفتنة الكبرى التي انتهت باغتيال الخليفة الراشدي الرابع وتفرق الأمة إلى أحزاب وشيع وطوائف ودول. مؤرخونا الأوائل سموا تلك الأحداث فتناًً، تأدباً منهم وتفاؤلاًً بأن تكون قصيرة الأجل، لأن كلمة «فتنة» قد توحي ضمناًً بمحدوديتها في الزمان والمكان. النتائج التاريخية تبرهن على عكس ذلك، فقد كانت الأحداث كلها حروباًً مفصلةًً على مقاسات الرجال والدنيا، ولم يكن المشاركون فيها مفتونين في دينهم، بل في دنياهم. انتشار الإسلام كرسالة سماوية، وخصوصاًً استقراره حتى اليوم في الأصقاع البعيدة لم يحصل بفضل الفتوحات العسكرية تحت ألوية الدول، وإنما بفضل بساطة المفاهيم ووضوح العدالة فيه وتركه حرية الاختيار للعقل والمشيئة الشخصية، لكن التاريخ الذي تحملته الشعوب كان سياسياًً دينياًً اقتصادياًً نخبوياًً، أي اقتصاد تحالفات قابلة للتعديل والتبديل تحت رايات الدين. ما زال الأمر كذلك، ولذلك استمر المسلمون على نفس الحال من الإنهاك وفي قاع التخلف المادي والأخلاقي والمعنوي.
ما يحدث الآن بين قطر والبقية المتبقية من دول مجلس التعاون، وهي ثلاث أو أربع فقط، هو استمرار لنيران تلك الشرارة الأولى كتكرار للتمصلح بين المكيافيلية السياسية والمكيافيلية الدينية. العنوان العريض للأحداث الجديدة هو تشكيل الشرق الأوسط من جديد.
للأسف ومع الشعور بالمرارة الخانقة ورغم كل هذا التاريخ الطويل بنتائجه الحاضرة المروعة، ما زال هناك قبول وتقبل للتمصلح السياسي الانتهازي مع النوع الانتهازي من التدين، أي التدين الملتصق كعلقة الدم بالسياسة.
لكن من الذي سوف يتحمل النتائج في النهاية.. إنها كالعادة الشعوب.
في هذه الفتنة / الصراع الأحدث، يطل مرة أخرى برأسه ذلك السؤال القديم الذي حسمته أغلب دول العالم بقناعة التجربة والاختيار: متى تترك السياسة التمصلح بالدين ويترك الدين التكسب بالسياسة، فيعمل أحدهما للأرض والآخر للسماء، وتقدم مصالح الأوطان والناس على كل التحالفات.
واقع الحال في بلاد المسلمين بعد ألف وأربع مائة سنة من الكوارث يتطلب الإجابة المقنعة على هذا السؤال.