في الفن السينمائي عمق إنساني آسر واحتوائي ومطوق، نجده في ذلك الصنف الذي يهتم بروح الإنسان وكينونته وصعوبات الحياة التي يغرق فيها الفقراء والمعوقون والمظلومون وكل من ينتمي إلى الفئات الاجتماعية المهمشة وقليلة الحيلة.
في هذه الجزئية الإنسانية تقدم السينما الإيرانية عمقا ً متميزا ً عن المجتمع الإيراني لا يستطيع المشاهد المحايد إلا أن يحبه ويتعاطف معه ويستسلم لجماله.
أفضل ما تقدمه إيران حاليا ً للعالم روائع مخرجي الأفلام الإيرانيين الموهوبين. أصبحت الأسماء الإيرانية مثل مخملباف، كياروستامي، فرهادي من علامات الجودة في لقاءات الجوائز العالمية للصناعات السينمائية. الوجه المتعصب العدواني الذي تقدمه الحكومة الإيرانية المذهبية، استطاعت المواهب السينمائية الإيرانية أن تغطي على كثير من مساوئه. أمسية واحدة يشاهد فيها الشخص فلماً إيرانياً قد تكون كافية للبحث عن المزيد.
من هذه المقدمة أحاول الدخول إلى مفهوم السينما كنشاط حضاري تعارفي متبادل بين الشعوب. في بلادي هنا قيد المجتمع بحكم قاطع يحرم كل ما يمت للسينما كاحتراف مهني إبداعي. هذا الحكم الصارم لا يمكن أن يصدر إلا من عقليات لا تعرف عن السينما سوى أنها وسيلة للاختلاط وأفلام تروج للخلاعة والدعارة، أو إسفاف ولهو واستلاب للمآثر والمكارم الأخلاقية المتبقية في الموروث والمتوارث.
لكن السينما ليست كذلك سوى في جزء صغير منها، ذلك الجزء المتفلت من الرقابة والغريزي الهابط وغير الملتزم بأي ضوابط أخلاقية. هذا النوع من الصناعة السينمائية ينطبق عليه حكماً ما ينطبق على المخدرات والبغاء والمتاجرة بالرذيلة، وأكبر ساحات الترويج له هي الفضائيات في المنازل والاستراحات ووسائل التواصل الإلكتروني المحمولة في الجيوب، وجواخير العرض المتوارية عن الرقابة الاجتماعية والقانونية. هذه النوعية الرديئة من السينما هي بالضبط ما هو متوفر في المجتمعات التي تحرم السينما، ونحن من أكثر المجتمعات استهلاكا ً لها، حتى لو أنكرنا ذلك. هذا القطاع السيئ من الصناعة السينمائية يشكل المستنقع الذي يجب ردمه، ومن أفضل وسائل ردمه توفير النوع الإنساني الأخلاقي الملتزم من الإنتاج السينمائي العالمي، بالإضافة إلى إطلاق سراح صناعة السينما المحلية من التحريم المطلق.
هنا أريد أن أعبر شخصيا ً عن انزعاجي من تحكم تبريرات وصائية في موضوع واسع وشديد الأهمية لا ترى فيه سوى ما يقع تحت فقه سد الذرائع. أريد لأولادي أن يتعودوا على مشاهدة روائع الفكر الإنساني على شاشات السينما، كمجهود تربوي إضافي يساعد على صرفهم عن مستنقعات الفضائيات الرديئة.
أريد أيضا ً أن تنشط في بلادي صناعة سينمائية راقية، مثل تلك التي تقدمها المواهب الإيرانية للتعريف بالحضارة الإيرانية بعيدا ً عن تزمت السياسة. من المفارقات المحزنة أن يستطيع كل العالم مشاهدة الفلم الجميل «وجدة» للمخرجة السعودية هيفاء المنصور، ويحرم الجمهور السعودي من المشاركة.