حوارات ساحتنا العامة والخاصة ما زالت تدور حول محورين: المحور الأجد منهما هو تأزم العلاقات بين دول مجلس التعاون، وسحب سفراء الإمارات والسعودية والبحرين من قطر. وسأعود إليه بالتفصيل لاحقاً. والأسبق يتداول قرار القيادة الأعلى بتجريم القتال خارج الدولة, وتفاصيل ما جاء فيه من العقوبات للمشاركين والمحرضين والممولين. والعلاقة بين القرارين وطيدة. إذ لابد أن يتفق الخليج على موقف منسجم.
ولعل قرار التجريم هو أول فعل توضيح مباشر وصريح يفرق بين «الجهاد» المشروع دفاعاً عن الوطن, و»الإرهاب» الإجرامي عبر التسلل فردياً بطرق غير مشروعة إلى أرض دولة أخرى بقصد المشاركة في القتال، أو لتنفيذ مخططات خاصة بفئة مؤدلجة أو أخرى. قرار حكيم رحب به الغالبية, خصوصاً الآباء والأمهات الذين عانوا من استجابة أبنائهم - وهم بعد في سن لم تصل النضج الحقيقي الذي يسمح باختيار مسار الحياة- لنداءات مشبوهة تحثهم على «الجهاد» مظهرياً، في حين أن الفعل المناط بهم هو استخدامهم كوقود لحروب داخلية, حيث يفجرون أجسادهم لقتل مجموع من الغرباء الذين لا يعرفون عنهم شيئاً. ولن أكرر ما أشار إليه الزملاء الذين تناولوا هذا الموضوع، من أن المحرضين لم يكونوا يلزمون أنفسهم بما يحضون هؤلاء الشباب.
هؤلاء «المضللون» هم أبناؤنا! مصابون بسرطان فكري! وما زلنا نسمي السرطان «المرض الخبيث» وكأن عدم تسميته يحمينا منه. وكما نجد صعوبة في تقبل فكرة أن الجسد الغالي معلول بالسرطان, نجد صعوبة في الاعتراف أن خلايا الجسد المتسرطنة لابد أن تخضع لعلاج قاس, أو حتى البتر. وقد جربنا ما استطعنا لاستعادة تأهيل أبنائنا وإنقاذهم من براثن التسرطن بالعلاج لا البتر. أتيحت لي بصفة مهنية خاصة أن أطلع على برنامج «المناصحة», وأن أتحاور مع أحد الشباب الموقوفين, وقد بلّغ عنه أبوه حين اختفى بعد رسالة وداع توضح بأنه ماض إلى «الجهاد». وأوقف قبل أن يخرج من البلاد إلى أتون سوريا المضطرمة, التي هرب منها الآلاف من أبنائها ومات الآلاف غيرهم. وأنا أتأمل ملامحه شبه الطفولية تذكرت صوت أم محمد المختنق بالعبرات في برنامج «الثامنة»، وهي تفيض بشكواها وتخوفاتها وآلامها, وتطلب أن يحاسب المسؤولون من أقنعوا ابنها «الصبي المراهق» أن يرمي بنفسه إلى التهلكة. آلمتني براءة هذا الصبي الذي ما زالت لحيته زغباً, والذي كان يجب أن يدرك أن جهاده الحقيقي هو أن يرضي والديه.
برنامج المناصحة بتفاصيله الهادفة لإعادة تأهيل هؤلاء المضللين, نجح في أهدافه. وفي ما عدا نسبة ضئيلة, لم يعاود من أعيد تأهيلهم أعمال الإرهاب. فكم من أم وأب لشاب -مثل هذا الذي قيل لنا أنه يمر بمرحلة المناصحة حيث يحاول المتخصصون استعادته إلى العقل والتوازن- سعدوا بهذه النتائج. ولا أستطيع أن أقول أن دموع أم محمد هي ما جاء بقرار التجريم, مستثيرة تفاعلاً عاطفياً انفعالياً؛ بل أجزم أنه قرار متأن, بني على دراسة متعمقة ومتابعة للنشاطات «التحريضية» المتسترة بالإرشاد, وتحليل أساليبها وممارساتها, وتراكمات نتائجها.
تاريخياً حين بدأ نشاط استقطاب الشباب للانضمام لتيار «التدين» في الثمانينات, كان الأمر متجذراً في البحث عن هوية راسخة في مرحلة قلقلة دينية واجتماعية آنية. ولكنه سرعان ما انحرف إلى تغليب التسيس على التوعية، وانجرف إلى مهادنة التطرف والغلو, وقولبة عقول النشء لتتقبل فكر أن ضمان الوصول إلى الجنة وملذاتها الموعودة، قد يستدعي أن تستعجل العبور, إما بقتل نفسك, أو قتل الآخرين أو حض غيرك أن يفعل ذلك, فتفوز بثواب توعية الشباب واستنفارهم بالإضافة إلى نجومية التصدر, واحترام المجموع، ومتعة الإملاء, ومردود مادي مثرٍ من الحضور الصاخب على المنابر. ربما كان يجب تسمية الأفعال بأسمائها قبل أن نصل إلى بكاء أم محمد مباشراً على الهواء. ولكن أن تصل متأخراً إلى قرار العلاج خير من أن تترك السرطان يستشري في الجسد.