كنت قد أشرت في الحلقة الأولى من هذه المقالة إلى ما ذكره الشاعر المؤرخ خير الدين الزركلي، رحمه الله، في كتابه جزيرة العرب في عهد الملك عبد العزيز عن جهود الملك عبد العزيز، تَغمَّده الله برحمته، في سبيل فلسطين.
وبعد ذلك قال لي أحد الأصدقاء الذين أَعتزُّ بصداقتهم: ليتك ذكرت شيئاً من التفصيل عن تلك الجهود. قلت له: إن ما أورده الزركلي هو المختصر المفيد. ومنه جهود الملك عبد العزيز لإقناع زعماء العالم في الدول القوية؛ مثل أمريكا وبريطانيا، بعدالة قضية فلسطين، ومن ثَمَّ وجوب الوقوف مع تلك القضية العادلة. ومما رآه الملك عبد العزيز - وكان رأيه صائباً - أن وضع القيادات العربية؛ وبخاصة قادة الدول المجاورة لفلسطين، لا يؤهلها لأن تقوم بما يؤمل أن يكون ذا أثر فعَّال، وأن تَدخُّل الجيوش العربية الرسمية سيزيد تعاطف القوى العالمية الكبرى مع العدو الصهيوني.
ولذلك رأى بدلاً من تدخُّل تلك الجيوش أن يُسلِّح العرب الفلسطينيين بالأسلحة ليقفوا ضد الصهاينة بدلاً من أن يرسلوا جيوشاً رسمية عربية. لكن رأيه لم يُتبنَّ. فذهبت كتائب من الجيوش العربية، لكن علامات فشلها كانت واضحة من البداية.
كان مجموع تلك الكتائب أَقلَّ عدداً من الجيش الصهيوني المُوحَّد قيادة والمُدرَّب تدريباً جيداً، والمُسلَّح تسليحاً متقدِّماً؛ براً وبحراً وجوّاً.
ومع عدم اتِّباع قادة العرب رأي الملك عبد العزيز الصائب فإنه، رحمه الله، رأى أن يبعث كتيبة من الجيش السعودي مرافقة للكتيبة التي كانت من الجيش المصري.
وكانت الكتيبة السعودية بقيادة سعيد كردي، الذي أصبح - فيما بعد - رئيساً للاستخبارات العامة، وكان نعم المواطن المخلص الرزين.
أما جهود الملوك الكرام من أبناء الملك عبد العزيز فيكفي دليلاً عليها ما قام به الملك فيصل، رحمه الله.
وكان من جهوده أن أصبحت قضية فلسطين ضمن قضايا دول عدم الانحياز بعد مؤتمر باندونج الذي عُقِد عام 1955م، وكان فيصل رئيس الوفد السعودي في ذلك المؤتمر.
وفي ذلك العام انطلقت طلائع الفدائيين من غزة، التي كانت حينذاك تحت الإدارة المصرية، لتضرب بعملياتها قلب الكيان الصهيوني.
وكان لأحمد الشقيري، الذي كان في مُمثليَّة المملكة في الأمم المتحدة، دور كبير في إنشاء تلك الطلائع الفدائية.
فكان من جهود الملك فيصل، وعظمة شخصيته، أن تمكَّن من إقناع الرئيس الفرنسي، الجنرال ديغول، بعدالة القضية العربية الفلسطينية.
فعندما قابل ذلك الرئيس، عقب نكسة عام 1967م، قال له ديغول: إن إسرائيل أصبحت أمراً واقعاً. والأجدر بكم أن تعترفوا بهذا الواقع.
فقال له الملك: يا فخامة الرئيس لو اعترفت بالواقع - مهما كان - لما أصبحت أنت رئيساً لفرنسا، ولَظلَّت فرنسا تحت الحكم النازي. فاقتنع ديغول، وتَوقَّف عن إمداد الدولة الصهيونية بالسلاح.
ومع ما كان بينه وبين الرئيس جمال عبد الناصر من خلاف فإنه وقف طوداً راسخاً في مؤتمر الخرطوم المشهور بلاءاته الثلاث: لا اعتراف بشرعية الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، ولا مفاوضات مع هذا الكيان، ولا سلام معه.
وبقيت تلك اللاءات الثلاث مرعية طوال حياته.
وإضافة إلى ذلك تعهَّد في ذلك المؤتمر بمبالغ مالية كبيرة تدفع نصفها المملكة العربية السعودية ونصفها الآخر كُلٌّ من الكويت والإمارات العربية المتحدة؛ وذلك لدعم الجبهات مع الكيان الصهيوني، بل إنه زاد على ذلك بإرسال كتائب من الجيش السعودي لترابط مع الجيوش العربية التي كانت على تلك الجبهات دعماً لها.
وإني لأكاد أجزم بأن الرئيس السادات ما كان ليقدم على الذهاب إلى برلمان الكيان الصهيوني، ويلقي خطابه هناك، ثم ليوقِّع اتِّفاقية كامب ديفيد، لو كان الملك فيصل ما زال حيّاً عند ذلك الذهاب النحس وتوقيع تلك الاتِّفاقية المشؤومة، التي سبق أن ذكرت أن أحد قادة الصهاينة وصفها بأنها لا تَقلُّ أهمِّية لديهم من إعلان قيام كيانهم على أرض فلسطين عام 1948م.
ومما يدفعني إلى ذلك الجزم ما كان للملك فيصل، رحمه الله، من قوة الشخصية، وما كان له من فضل؛ قائداً للمملكة من دعم مادي كبير لمصر، وما كان له من مكانة جعلت عدداً من الدول الأفريقية بالذات تقطع علاقاتها مع الكيان الصهيوني.
في ختام هذه المقالة أَودُّ أن أقول: إن الحاخام ليرنر ليس الوحيد الذي نادى بشيء فيه من العدالة ما فيه.
فهناك يوري أفنري الذي تعرَّض للكثير من المضايقات من قِبَل الكيان الصهيوني، الذي يعيش فيه، لمساندته لقضية الفلسطينيين العادلة. وهناك يهود آخرون اعترفوا بالحق، ونادوا بمساندته.
ولكن كون ليرنر حاخاماً له ما له من أهمِّية قصوى. وإضافة إلى هذا فإن كثيراً من النقط التي ذكرها الحاخام ليرنر تبدو أكثر عملية وجديرة أن تؤخذ بعين الاعتبار؛ بل وأن تُتبنَّى.
وَفَّق الله أُمَّتنا إلى ما فيه الرشاد والسداد.