كان مما تناولته في الأسبوع الماضي الدلالة اللغوية لكلمة الإرهاب وتَطوُّر هذه الدلالة. وكان مما ذكرته أن القَويَّ يطلق كلمة «الإرهاب» وفق إرادته، وأن الضعيف يتبع القَويَّ؛
سواء اقتنع بتفسير القَويِّ للكلمة أو لم يقتنع. ومما قلته: إن جميع أنواع الإرهاب مرفوضة؛ سواء ارتكبه فرد أو جماعة مُعيَّنة أو دولة، وإن ارتكابه قد يكون باستخدام العنف؛ تقتيلاً أو تفجيراً، وصوره البشعة تختلف في بشاعتها. وقد يكون الإرهاب باستخدام وسيلة أخرى؛ مثل الحصار والتجويع المميت. وإذا كان مرتكب الإرهاب فرداً فإنه قد يكون جاهلاً مُغرَّراً به، فحينئذ يَتحمَّل الجزء الأكبر من المسؤولية والعقاب من غَرَّر به؛ سواء كان المُغرِّر فرداً أو جماعة مُعيَّنة. على أن الطامة الكبرى هي إذا كان مرتكب الإرهاب هو الدولة، والأَنكى والأَشد إذا كانت هذه الدولة ترتكب الإرهاب ضد شعبها. وقد تَجلَّى هذا على أيدي المُتحكِّمين المجرمين في سوريا. فلقد ارتكبوا الإرهاب بمختلف صوره البشعة طوال ستة أشهر ضد أكثرية الشعب الذين كانوا يتظاهرون سلميّاً. و ظَلُّوا يرتكبون ذلك الإرهاب؛ بل يكثِّفون بشاعة تلك الصور باستخدام البراميل المُتفجِّرة وبما تَمدُّهم به روسيا من أسلحة مُتطوِّرة؛ إضافة إلى حصار مدن، أو أحياء منها، ومنع وصول أيِّ أطعمة أو مستلزمات طبيَّة إليها بحيث مات من ماتوا من أهلها جوعاً أو بنفاد تلك المستلزمات الطبية.
ومصطلح الإرهاب Terrorism في اللغات الأوربية مصطلح حديث نسبيّاً إذا أُخِذ على أنه سعي للقتل والتدمير لإثارة الرعب العام من أجل تحقيق هدف سياسي. على أن ظهور المصطلح شيء ووجود ما يدل عليه شيء آخر؛ إذ إن الإرهاب ذاته قديم في تاريخ البشرية. ويبدو أن ذلك المصطلح بدأ يدخل إلى اللغات الأوروبية وصفاً لأعمال العنف التي حدثت في عهد روبسبير في أعقاب الثورة الفرنسية. ولم يكن في اللغة العربية مصطلح يدل على الإرهاب بمعنى Terrorism إلا بعد أن شاعت الكلمة فيها وصفاً للعمليات التي ترتكبها في فلسطين العصابات الصهيونية القادمة من الغرب؛ ابتداء من تفجيرها لفندق داود في القدس عام 1946م. ثم كان ما كان من ارتكاب تلك العصابات مجازر ضد الفلسطينيين كمجزرة دير ياسين عام 1948م. وعلى هذا فالإرهاب بمعنى Terrorism بضاعة غربية استوردها من استوردها من المسلمين اصطلاحاً لغويّاً وممارسة عملية.
ومن المعلوم أن الاستعمار نوع من العدوانية، التي يدخل تحت عباءتها الإرهاب. وقادة الدول الغربية كثيراً ما كانت نظرتهم نظرة تدل على نفاق فاضح وازدواجية في المعايير ممقوتة. في أثناء احتلال ألمانيا النازية لفرنسا قام الشعب الفرنسي بعمليات ضد الجيش الألماني والحكومة التي أقامها في فرنسا. ولم يعدَّ قادة الدول الغربية المعارضة لألمانيا تلك العمليات إرهاباً. بل إنها أيَّدتها. وهذا موقف سليم لا غبار عليه. لكن مقاومة أقطار أُمَّتنا لمستعمريها كانت توصم بأنها أعمال إرهابية. ومما يُوضِّح كيل قادة الغرب بمكيالين، أو عدة مكاييل، أنهم فرضوا على أندونيسيا أن تجرى انتخابات في تيمور الشرقية أَدَّت إلى استقلالها عن أندونيسيا. لكنهم بقوا صُمّاً بُكماً عن القضية الشيشانية حيث كان الشيشانيون يطمحون إلى الاستقلال منذ الاستعمار القيصري الروسي لبلادهم. وفي البوسنة والهرسك كان القادة الغربيون يرون ما يرتكبه الصرب ضد المسلمين من جرائم بشعة، لكنهم كانوا يتباطؤون في اتِّخاذ أي موقف حازم حتى أَتمَّ الصرب أكثر ما كانوا يرغبون إتمامه من مجازر. وربما لو لم تكن صربيا على غير وفاق مع الغرب، وأنها كانت تعتنق مذهباً مسيحيّاً ليس منتشراً في البلدان الغربية، لما تحرَّك القادة الغربيون ضد تلك الجرائم قط. ولقد اعترف الرئيس الأمريكي السابق، نيكسون، باتِّخاذ الغرب مواقف مزدوجة عندما تَحدَّث عن مذبحة السوق المشهورة قائلاً:
«إنها حقيقة مؤلمة محرجة، لكن لا يمكن إنكارها. لو كان سكان سراييفو في أغلبيتهم مسيحيين أو يهوداً لما كان العالم المتحضر (ووصف نيكسون العالم الغربي بالمتحضر تعبير شوفيني يدل على رسوخ الشعور بالفوقية) سيسمح للحصار أن يصل إلى الحد الذي وصل إليه في الخامس من فبراير عندما كان الصرب يقصفون سوق سراييفو المزدحم بالسكان. في مثل هذه الحالة سيكون الرَّد لدى العالم المُتحضِّر سريعاً. وسيكون مُحِقّاً في ذلك».
كان ذلك كلام نيكسون تجاه ما حدث في البوسنة والهرسك. وكنت قد قلت عن ذلك في تقديمي الرئيس علي عزت بيجوفيتش ليلة منحه جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عام 1413هـ: إنه:
رَمزٌ لشعب رِيعَ خَافقُ أَرضِه
واربدَّ وَجْهُ سَمائه وتَجهَّما
وجرائم الصربيِّ تبدو عندها
أَفعال هولاكو أَعفَّ وأَرحما
ومُفسِّر القانون وَفْقَ مزاجه
يَرنوا أَصمَّ إلى الجرائمِ أَبكما
ويُمارس التسويف خُطَّةَ بَارعٍ
حتى يُراقَ دَمُ البَريء ويُعدما
ما كان أسرعه لِيردعَ ظَالماً
لو لم يك المظلوم شعباً مسلما
لا أظن أن عاقلاً إلا ويرى الأقليَّة المُتحكِّمة في سوريا ترتكب أبشع صور الإرهاب في سوريا، وأن الأكثرية التي هَبَّت لإزالة ظلم تلك الأقليَّة وإيقاف ارتكابها ما ترتكبه من جرائم فظيعة، تقوم بعمل مشروع مُبرَّر. على أن تلك الأكثرية القائمة بعملها ذلك لا تحتاج إلى أفراد يأتون من بلدان أخرى إلى سوريا. وقد رَدَّدت هي ذاتها مراراً وتكراراً عدم احتياجها لهم. ومساعدة المناضلين السوريين قد تَتحقَّق الآن بمساعدتهم ماليّاً عبر الحكومات العربية والإسلامية المعَنيَّة. ومن ليس لديه ما يتبرع به فالدعاء لهم مستطاب.
زاد الله وطننا خاصة وأوطان أُمَّتنا العربية الإسلامية عامة أمناً وسلاماً، وكشف عنها جميع البلاوي والنكبات.