تاريخياً لا يمكن إغفال دور الاتحاد السوفيتي في دحر النازية وإنقاذ العالم من شرورها. ففي 22 من شهر يونيو من عام 1941 وبعد نقض هتلر لاتفاقية عدم الاعتداء التي وقعها مع ستالين، شنت ألمانيا أكبر هجوم عسكري في تاريخ الإنسانية كان قوامه أكثر من ثلاثة ملايين جندي ألماني،
إضافة إلى مليون ونصف جندي من قوات دول المحور الموالية لألمانيا، وبجبهة قتال قاربت ثلاثة آلاف كيلومتر.
أطلق الألمان على عملية غزوهم للاتحاد السوفيتي الاسم الرمزي بارباروسا (UNTERNEHMEN BARBAROSSA).
قدم السوفيت العديد من التضحيات وسجلت الوثائق التاريخية مواقف الشجاعة والصمود التي لعل أبرزها صمود مدينة لينينغراد (سانت بطرسبيرغ) أمام محاصرة الجيش الألماني لها التي امتدت لأكثر من 872 يوماً من الحصار، وكانت نهاية حصارها بداية للعد التنازلي لنهاية الحرب العالمية الثانية، حيث اقتحمت القوات السوفيتية في الثلاثين من شهر أبريل عام 1945 مبني الرايخ في المستشارية الألمانية في برلين (REICHSKANZLEI)، لتكتشف انتحار هتلر وزوجته ايفا بروان، ووزير دعايته غوبلز مع زوجته وأبنائهم الستة.
ومع هذا المشهد انتهت الحرب في أوربا ليعقبها استسلام اليابان لاحقاً بعد تعرض كل من مدينتي هيروشيما وناغازاكي لأول القنابل الذرية في تاريخ البشرية.
كان لابد من هذه المقدمة التاريخية لمعرفة كيف تفكر روسيا وريثة الاتحاد السوفيتي الذي تفكك رسمياً في 25 ديسمبر 1991 في زمن الرئيس بوريس يلتسن الذي فتح له الطريق للقيام بذلك آخر الرؤساء السوفيت ميخائيل غورباتشوف.
لكن الضغينة الروسية ضد ألمانيا لم تنتهِ بنهاية الحرب العالمية الثانية أو بانتهاء حقبة الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشيوعي التي انتهت بسقوط حائط برلين (BERLINER MAUER)، الذي بُني إبان السيطرة السوفيتية على أوربا الشرقية في 13 أغسطس 1961 ليفصل مدينة برلين إلى شطرين غربي وشرقي وهدم في 9 نوفمبر 1989، واستمر قائماً لمدة ثمانية وعشرين عاماً، ليصبح شاهداً على القمع ومحاولات الألمان في الشطر الشرقي التي لم تستسلم لليأس للهروب من الستار الحديدي السوفيتي.
نست ألمانيا مآسي الحرب واتجهت صادقة خصوصاً بعد تفكك الاتحاد السوفيتي نحو تعزيز علاقاتها مع روسيا، واستثمرت بكثافة في الاقتصاد الروسي من خلال أكثر من خمسة آلاف شركة ألمانية تعمل في روسيا.
ولتعزيز تقاربها مع روسيا في كل المجالات سعت نحو تعزيز الحوار بين البلدين من خلال منتدى حوار سانت بطرسبيرغ الذي يُِقام سنوياً في المدينة التي عانت الأمرين من الألمان إبان الحرب.
في المقابل كان الفتور هو السمة العامة من قبل الجانب الروسي نحو السعي الألماني للتقارب، بل إن الساسة الروس لم يخفوا ذلك، فالرئيس فلاديمير بوتين قال في تصريح له بمناسبة الذكري السنوية الرابعة والعشرين لسقوط جدار برلين وكان حينها رئيساً لوزراء روسيا: إن انهيار الاتحاد السوفيتي كان أكبر كارثة جيوبلوتكية (الجغرافيا السياسية)، في القرن العشرين.
ما سبق هو محاولة تاريخية لتعقب التفكير الروسي من الأزمات في محاولة لفهم الموقف الروسي من أزمتين يعيشهما العالم حالياً بكل تفاصيلهما وهما الأزمتين في سورية وأوكرانيا.
الموقف الروسي من الأزمة السورية يمكن تعقبه للغزو السوفيتي لأفغانستان الذي استمر لمدة عشر سنوات من 25 ديسمبر 1979 وحتى 15 فبراير 1989، حين دخل الجيش السوفيتي الأربعين الأراضي الأفغانية لدعم حكومة حفيظ الله أمين ذات التوجهات الشيوعية، ليلقي حفيظ الله حتفه ويتم إعدامه ليتولى السلطة بابراك كارمل رجل موسكو في أفغانستان.
وخلال سنوات الوجود السوفيتي في أفغانستان خاض الجيش السوفيتي حرباً مريرة ضد المجاهدين الأفغان وحلفائهم، ممن اصطلح على تسميتهم بالأفغان العرب.
انهزم الجيش السوفيتي وتكبد خسائر فادحة اضطرته في النهاية للانسحاب. لكن انسحابه لم يكن نهاية القصة فقد بقي في مخيلة العديد من الساسة الروس هوس وبارانويا من كل ما يتعلق بالجهاديين ولم يستسيغوا هزيمة جيشهم الذي قهر ألمانيا النازية، ولكن فاتت عليهم في غمرة هوسهم بأنهم في حربهم مع ألمانيا كانوا هم الطرف المعتدى عليه، وفي أفغانستان كانوا هم الطرف الغازي.
وفي سورية اختلطت عليهم الأوراق وربما بسبب عقدة أفغانستان، فالأفغان هبوا عن بكرة أبيهم لطرد محتل خارجي يريد أن يفرض عليهم أيديولوجية يرفضونها، وفي سورية شعب انتفض بحثاً عن إصلاحات وكانت النتيجة تدمير البلاد والعباد بكل أصناف الأسلحة من كيماوي وقنابل عنقودية وبراميل متفجرة وحصار للمدن والأرياف.
لم يكن موقف روسيا في سورية أو نحو أي انتفاضة يذكر فيها اسم الجهاد (الذي تمت الإساءة إليه من قبل قلة لا تمثل مجموع المسلمين) ولو في إشارة عابرة استثناء، فهم كانوا أيضاً ضد ما حدث في ليبيا وما يحدث في محافظة الانبار العراقية.
ودعم روسيا لصرب البوسنة ليس ببعيد عن الذاكرة، حيث شهدت أوروبا أبشع صور التطهير العرقي الذي ذهب ضحيته آلاف المسلمين، وتشهد سربرنيتشا على تلك الفظائع.
في الأزمة الأوكرانية الانتقام الروسي يأخذ شكلا مختلفاً، لعل جوهره هو السبب غير المعلن برغبة الزعيمة الأوكرانية يوليا تيموشينكو، أحد رموز الثورة البرتقالية في 2004 ورئيسة أوكرانيا السابقة التقرب من الغرب، وهو أمر لم يرضِ قيصر روسيا الجديد الرئيس فلاديمير بوتين، لم يشفع لتيموشينكو كونها ابنة مدينة دنييروفيسك، المدينة الأوكرانية التي يتحدث سكانها الروسية وكانت سابقاً مدينة صنع الصواريخ السوفيتية العابرة للقارات، وبأن السبب وراء سجنها اتهامها باستغلال السلطة في اتفاقية توريد الغاز التي أبرمتها مع روسيا عام 2009، كون الاتفاقية مجحفة بحق أوكرانيا.
خسرت روسيا خاصرتها أوكرانيا بتدخل وفد الترويكا الأوربي (فرنسا، بريطانيا، ألمانيا)، مع الساسة الأوكرانيين، ونتج عن ذلك عزل البرلمان الأوكراني للرئيس ياناكوفيتش وإطلاق سراح تيموشينكو وانتخابات عامة في 25 مايو القادم، أعلنت عن نيتها خوضها.
ولمن يعرف روسيا فإنها خسرت معركة ولن تقبل بخسارة الحرب في أوكرانيا. ما يُشاهد في أوكرانيا جولة وللروس في قادم الأيام جولات.
لعل هناك سؤال عالق ليس له جواب ويتعلق بالمسلمين في الاتحاد الروسي، ألم تسأل القيادة الروسية نفسها بأن سياستها غير المتزنة سوف تردد عليها عاجلا أم آجلاً؟ هناك في منطقة الفولغا قلب روسيا توجد ست جمهوريات وإقليم بغالبية مسلمة أو بوجود إسلامي كثيف وهي تترستان، بشكريا، تشوفاش، موردفيا، ماري يل، أودمورت، وإقليم أورنبرغ.
وسبع جمهوريات في منطقة القوقاز الشمالي هي، داغستان، الشيشان، آنغوشيا، قيردين بلغاريا، أوستيا الشمالية، كارتيشيف، شركيسيا.
ومجموع المسلمين في هذه الجمهوريات والإقليم يتخطى الخمسة والعشرين مليون نسمة.
ولعل من الجدير ذكره والملاحظ بأن كل الجمهوريات الإسلامية جنوب روسيا تربطها علاقات ود وتعاون مع روسيا وتعيش في جمعيها أعداد كبيرة من الروس أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي لهذه الجمهوريات.
فكيف تخطى الساسة الروس كل هذه المعطيات في تعاطيهم مع الأزمات التي تهم العالم الإسلامي كالأزمة السورية، وهم المعرفون بحنكتهم السياسية ومقدرتهم البارعة على التحليل؟! أم أن الرغبة في الانتقام أقوى لديهم من رغبة تحكيم العقل والمنطق؟!
يقول شاعر روسيا الكبير في القرن الثامن عشر فيدور تيوتشيف (FYDOR TYUTCHEV)، في أحد أشعاره وهو رائد الشعر الفلسفي الروسي (ROSSIYA UMOM NE PONYAT)، وترجمتها: لا يمكنك أن تعرف روسيا بعقلك»، وفيما يبدو أن مقولته ما زالت نافذة الصلاحية حتى يومنا هذا في القرن الواحد والعشرين!!!