إليكم التصريح التالي، ونصه حرفياً كما يلي: «على منتسبي المؤسسة الأمنية أن يدركوا أنهم سيقتلون وُيقتلون تحقيقاً لهدف مقدس»، وقد يدور بخلد غالبية من يستمع لهذا التصريح أنه قد صدر عن أحد قادة ممالك أوربا في العصور الوسطي لحث أتباعه لتنظيم حملة عسكرية في اتجاه الشرق وتحديداً نحو بيت CRUSADES المقدس، في حملات أطلق عليها المؤرخون الحروب الصليبية،
بيد أن المفاجأة أن التصريح أطلق في القرن الواحد والعشرين في بحر هذا الشهر الجاري، شهر يناير من العام 2014، وان من أطلقه ليس سوى رئيس الوزراء العراقي السيد نوري المالكي.
ولجعل المفاجأة أكثر دراماتيكية أن الحملة العسكرية التي أمر بها السيد المالكي وجهتها هي ما اصطلح على تسميته من قبل غلاة الشيعة في العراق بالمثلث السني، في محاولة يائسة منهم في التقليل من شأن وأهمية هذا المثلث.
ولكن الحقائق على الأرض تقول إن هذا المثلث السني يشكل أكثر من ثلث العراق مساحة ويشمل محافظة ديالي شرقاً، ومحافظة بغداد جنوباً، ومحافظة الأنبار غرباً ومحافظة صلاح الدين شمالاً، وبعدد سكان يتجاوز العشر ملايين وبمدن عراقية شهيرة بدءاً من العاصمة بغداد، تكريت، سامراء، بعقوبة، الفلوجة، والرمادي.
وبعد تصريحه الشهير صرح السيد المالكي بأن العراق يواجه إرهابا سنياً، وطالب بمساعدة دولية في المواجهة في خطوة غاية في الغرابة تستدعي وضع العديد من علامات الاستفهام حولها.
غير أن هذه الغرابة تبدأ بعض غيومها في الانقشاع برد سريع من طهران وبأنها على أهبة الاستعداد لتقديم كل ما يمكنها للسيد المالكي في مواجهة التهديد الذي يواجهه، في محاولة مستمرة منها من أجل هلال شيعي متخيل، تحاول القوى العظمي خلقه بتنفيذ إيراني، هلال ليس له وجود على ارض الواقع سوى في مخيلة ملالي وقادة إيران، يبدأ من رأسه في إيران وينتهي بذيله حزب الله في لبنان مروراً بكل من العراق وسورية.
ما يميز هذا الهلال المتخيل أن رأسه حرقته الحروب والفتن في كل أجزائه ولا تعرف أمنا أو استقرارا، وانشغالها في دوامة ومستنقع من العنف والخوف لا نهاية لهما.
لكن سنن الله في خلقه سترتد على رأس الهلال وليتحول إلى مذنب يلقى رأسه المصير نفسه الذي اكتوت به كل أطراف الهلال المزعوم.
مشكلة السيد المالكي تكمن في كونه طائفيا بامتياز فقائمته الحزبية المسماة ائتلاف دولة القانون، التي تتشكل من حزبه الدعوة وأحزاب أخرى، شيعية في مجملها، وليس فيها من القانون أو الالتزام به سوى اسمها، ولدت من رحم الائتلاف الوطني العراقي المكون من أحزاب شيعية فقط، فكيف لرئيس وزراء فكره وتاريخه السياسي يتمحور حول طائفته فقط، كيف له أن يكون رئيس وزراء لكل العراقيين باختلاف طوائفهم؟ ومشكلة السيد المالكي الأخرى أنه ميكافيلي حتى النخاع، فالغاية عنده تبرر الوسيلة.
فهو لا يتوانى في استدعاء شهيد المسلمين جميعاً وسيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي - رضي الله عنهما وأرضاهما - في حملته ضد الأنبار ويصف حملته ضد أبناء بلده بأنها معركة بين أتباع الحسين - رضي الله عنه - ويزيد، في محاولة لاستدعاء التاريخ في قضية سياسية داخلية بين أبناء الشعب الذين لم يعرفوا كرهاً مذهبياً بينهم إلى أن دست إيران وأتباعها أنوفهم في الشأن العراقي، مؤججين صراعات وأحقادا مذهبية كانت إلى حقبة قريبة أمرا من آخر اهتمامات العراقيين بكل طوائفهم.
مشكلة المشكلات مع السيد المالكي هو انصياعه التام لكل الأوامر التي تصدر إليه من طهران، خصوصاً إذا كانت هذه الأوامر تحقق له مكاسب شخصية.
ولعل أنصع مثل على هذه الحقيقة حملته الحالية على محافظة الأنبار، فالسيد المالكي هو نفسه كان وإلى أسابيع قليلة خلت يتحدث عن مشروعية المطالب للمعتصمين في الأنبار، وفجأة وبتزامن مع قرب عقد مؤتمر جنيف 2 وتعقيدات الملف السوري، وقطعاً بسبب تعليمات طهران أصبح يتحدث عن ضرورة فك اعتصام الأنبار بالقوة المسلحة، اعتصام استمر سلمياً لما يقارب أو يزيد على عام، انقلب بوجهة نظر المالكي إلى اعتصام إرهابي.
السيد المالكي بموقفه يضرب عصفورين بحجر واحد، الهدف الأول هو أنه انصاع لأوامر طهران التي لا يستطيع أن يرفض لها طلباً، حتى لو كان هذا الطلب قتل أبناء جلدته، الهدف الثاني أن حملته ضد الأنبار ستزيد من شعبيته لدي الناخبين من الشيعة الذين في غالبيتهم مغلوبون على أمرهم، خصوصا أنه يحاول في كل مناسبة أن يدثر حملته العسكرية على الأنبار بغطاء من القدسية.
فالحملة العسكرية أمر مخطط له من قبل ولم يكن اعتباطاً تنفيذها تزامناً مع قرب عقد مؤتمر جنيف 2 المزمع عقده في 22 من الشهر الجاري، والانتخابات التشريعية العراقية المتوقع عقدها في شهر مارس المقبل.
المؤشرات تؤكد أن السيد المالكي مستعد أن يفعل المستحيل للحصول على فترة ثالثة يزداد فيها شقاء العراقيين وعذابهم التي صنفت منظمة الشفافية الدولية بلادهم بكونها من أكثر بلدان العالم فساداً.
الشهادات كثيرة وواضحة عن طائفية السيد المالكي ولا يجادل بها إلا مكابر أو جاهل، منها ما ذكره ساسة عراقيون وأخرى من مصادر غربية.
فنائب رئيس الوزراء العراقي السيد صالح المطلك صرح قبل أيام من واشنطن بأن الجيش العراقي طائفي وبأن مشكلة العراق تكمن في أن الأمريكيين سلموا الشيعة زمام الأمور في العراق وتم إقصاء كل القوى السياسية الأخرى.
ورئيس البرلمان العراقي أسامة النجيفي الذي دعته واشنطن لزيارتها ومقابلة الرئيس أوباما، تعرض هو الآخر لهجوم عنيف من السيد المالكي لأنه تفهم فقط مطالب أهل الأنبار وهو نفس الموقف الذي كان عليه رئيس الوزراء قبل أن تصله التعليمات من طهران، وليعلن أن رئيس مجلس النواب العراقي فقد شرعيته لأنه تعاطف مع مطالب المعتصمين في الأنبار..
وقد أوردت صحيفة الفاينشال تايمز البريطانية في تحقيق مطول لها صدر مؤخراً أن المالكي قمع المسلمين السنة وأشعل نار الفتنة في العراق.
وفي كتابه الذي صدر مؤخراً ذكر وزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس أن المالكي قام بعزل السنة في العراق وتعامل معهم بعدوانية وجعل الشيعة يهيمنون على الحكم.
لفترة ظن المالكي أن حلول مشكلات العراق تأتي من إيران فوجه بوصلته إليها، ليكتشف بعد ذلك وبفترة وجيزة خطأ تقديراته وأن أمن ومستقبل العراق هو في عودته إلى محيطه العربي، لكن لكونه طائفي الفكر مضى قدماً في تحقيق أهدافه وحساباته الضيقة، أما أمن العراق ورخاؤه وتطوره فهي في آخر جدول حساباته، وكيف يكون له ذلك وهو من يسبح ويمجد ليل نهار لمرجعيته في قم وطهران.