مرت قرون ظلت فيها الأحوال الحياتية في ديارنا، سياسيا واجتماعيا وإعلاميا، مُشابهة لفترة ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. ولذا فقد جَمُد الماضي في فكره العام، فما أصبح لديارنا حاضرا فكريا تعيش فيه، فهي ما تزال فكريا تدور في رحى الماضي.
وقد تأسست الدولة السعودية الثالثة في فكر الزمن الماضي، وعلى هذا الفكر تشكلت الثقافة العامة التي تحكم طريقة التفكير في المجتمع ومؤسساته، إلا ما عُزل عن ثقافة المجتمع، كأرامكو مثلا كحالة تامة الأركان.
ثقافة اليوم هي ثقافة الأمس، وتعثر الإصلاحات ومشاكل المجتمع المتزايدة ما هي إلا نتاج عدم تطور الثقافة الاجتماعية السعودية. فإهمال التطوير للبناء يجعله متخلفا ساقطا أمام الأبنية الجديدة، فيدرك التخلف والسقوط نفسيات سكان البناء، فيتخلفون ويسقطون في مؤخرة الناس. وأما إهمال صيانته بالإصلاحات، فهذا يؤدي به حتما إلى الانهيار والفناء. وقد أصبحت البلاد بحاجة ضرورية ماسة اليوم، لضمان بقائها وعزتها، إلى نقلة فكرية تخرجها من رحى الماضي إلى مضمار السباق الحضاري العالمي.
فكر الزمن الماضي تمثله فتاوى الماضي القائمة على التقليد، والتي يقوم عليها - اليوم- القضاء والحسبة الاجتماعية والتعليم. وهذه الفتاوى هي بنية الثقافة للمجتمع السعودي والتي يفكر من خلالها. لذا فهي تُعتبر - في واقعها التطبيقي العرفي- كاللوائح التفسيرية لدستور البلاد الداخلي، القائم على الكتاب والسنة. فالدستور هو الكتاب والسنة ولكن لوائحه التفسيرية قائمة بشكل مباشر أو غير مباشر على الفتاوى القديمة. وهذه الفتاوى تمثل فكر الماضي ومعطياته، والذي اختلف جذريا اليوم، فانتهت بذلك صلاحية هذه الفتاوى.
وأكبر شاهد على عدم صلاحيتها اليوم: هو أن أكثر هذه الفتاوى ممنوع من النشر!!! وما نُشر منها، لم يُطبع في كتب رسمية، بل هي قصاصات تم نقلها على الإنترنت. وما طُبع منها في كتب، فلا يباع داخل المملكة، بل في خارجها!! ومن الشواهد كذلك -على عدم صلاحيتها اليوم-، إن في هذه الفتاوى ما يُعتبر غير لائق للنشر من الجانب الإنساني أو الأدبي اليوم، وقد كان مقبولا بالأمس. وما ينقله ناقل للناس من هذه الفتاوى علانية خارج الدائرة المغلقة، يُتهم في دينه ونيته، على الرغم من أنها هي بمجموعها تحكم فكر هذه البلاد وقضائها وثقافتها، بكونها تشكل البنية التحتية- المسكوت عنها- الموجهة للفكر والثقافة. (وفي هذه الإشارة كفاية توضح مدى حاجة البلاد إلى الخروج من دائرة الدوران في رحى فتاوى الماضي).
ومن رحمة الله بهذه البلاد أن سخر لها هذا الملك الصالح، فهو يقود البلاد للخروج بها من هذا المأزق الفكري بسياسة مدركة للواقع ومتدرجة. فالملك الصالح المصلح اليوم يبذل جهدا صادقا في تحقيق هذه النقلة الفكرية الحضارية من أجل إدخال البلاد في مضمار السباق الحضاري العالمي، ولكن أنى له بمحمد بن عبدالوهاب اليوم.
فالخطاب الديني- الذي هو أساس البنية الثقافية والفكرية والمنطقية عندنا- لن يتغير، بل ويستحيل أن يتحرك خارج الدوران حول رحى الماضي. وكيف للخطاب الديني أن يتغير وهو نتاج الجيل الماضي، الذي أسسه مفتي الديار محمد بن ابراهيم رحمه الله على سياسة تقريب الموافق وأبعاد المخالف، والإكرام بالمال والجاه وتقليد الوظائف والعهد بالمسؤولية للمُقلد التابع والمتشدد في تنفيذ مضمون الفتاوى، (وذلك بسبب عدم ثبات الأوضاع آنذاك. وقد منع الفاروق سهم المؤلفة قلوبهم، فلعمري أنى لنا بفقه الفاروق). فبالجملة، فجيل الخطاب الديني اليوم الذي يُمسك بثقافة الجامعات الدينية وبالثقافة الاجتماعية هو الجيل المتخرج من سياسة مفتي الديار رحمه الله التي أشرت لها. (ولهذا ترى كتمان الفتاوى والعلم والأدلة الشرعية وجعل الناس خاصة وعامة، دينا يدين به الله كثيرا من المخلصين من الجيل المتخرج من سياسة مفتي الديار رحمه الله، دون اعتبار لفارق الزمان والحال).
وعلى كل حال، فإذا تجاوزنا الأمل في إصلاح الخطاب الديني، فإن من أهم أعمدة التجديد عندنا هو القضاء وجهاز الحسبة. فكلاهما يؤثران في ثقافة المجتمع وفكره، من حيث أنهما التطبيق العملي الملموس لفتاوى الماضي والتي تشكل ثقافة المجتمع. وكلا الجهازان يقودهما رجلان قديران خلقا وعلما ومكانة وشجاعة، فهما أهلًا بأن يكونا في هذا الباب عونا لأبي متعب، كما كان محمد بن عبد الوهاب عونا لابن سعود. وكلا الرجلان قد اُحتسب ضدهما وعُوديا، كما عودي واتُهم الشيخ رحمه الله من قبل. ولولا نصرة ابن سعود لابن عبدالوهاب، لما كان ابن عبدالوهاب شيئا يُذكر. وكذلك، فلولا أن يكون هناك سندا وعونا من أبي متعب لهذين الرجلين، فلن يستطيعا أن يخرجا من الدوران حول رحى الماضي.
الماضي قد مضى وله رجاله وأحواله، والحاضر قائم بأحواله ورجاله. وليس من الحصافة في شيء أن نَقبُر رجال الحاضر في مقابر فكر رجال الماضي. وليس من المُستطاع إيقاف الزمان، فنرضي بتقيده برحى الماضي.