في مجلة الأكونومست الأمريكية العريقة الأسبوع الماضي جاء تقرير عن المملكة تطرق فيه حول التقدم في مستوى النهضة الاقتصادية والثقافية والتعليمية التي تمر بها البلاد، وعلى المستقبل المُبشر الواعد للسعودية مع إتمام هذه المشاريع الإستراتيجية. واتبع التقرير سرده لهذه الحقائق بقوله: وقد يعتقد القارئ أن الشعب السعودي راض وسعيد بالوضع المزدهر والواعد الذي تعيشه بلاده، ولكن هذا غير صحيح فالشعب السعودي غير راض. انتهى
وأقول: إن هذا صحيح إلى حد ما وبعضه عائد إلى الفطرة الإنسانية وطبيعة المجتمعات البشرية، وبعضه لأسباب مُبررة، سواء أكانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية. وجامع الأسباب المبررة المباشرة وغير المباشرة هو أزمة الأراضي والإسكان.
فأزمة الإسكان والاراضي وإن كانت مسبباتها قديمة إلا أنها تعاظمت اليوم حتى طغت على كل تنمية حصلت فحجبتها. وهي محرك دوافع الامتعاض، والشاهد لمروجي الشائعات على صدق أخبارهم، وهي سبب فقدان الثقة بما يسمعونه عن مشاريع مستقبلية، خاصة بعد عجز وزير الإسكان عن الوفاء بتصريحاته العظيمة في مقابلة المديفير. وكل مشكلة مادية ملموسة كانت أو معنوية أو نفسية مؤثرة في خلق المشاكل، فإن لأزمة الأراضي والإسكان سببا في صناعته معنوياً أو مادياً، فأزمة الأراضي والإسكان تدخل في ضعف الوطنية بسبب عدم امتلاك منزل فيه، وتدخل في نشر إشاعات الفساد لأنها أزمة مصطنعة لا حقيقية، فأصلها شح الأراضي التي منحت سابقاً، وأعفيت اليوم من أي كلفة، ولأنها تدخل عاملاً مهماً في رفع مؤشر التضخم، بل لعلها هي النسبة الأكبر في مؤشر التضخم والمسبب له. وأزمة الإسكان والأراضي كذلك تدخل في كثير من عرقلة المشاريع وهي أصل شكوى بعض الوزراء في تعطل مشاريعهم.
وأما الأسباب الطبيعية العائدة للفطرة الإنسانية وطبيعة المجتمعات المدنية الاجتماعية، فإنه من المعلوم أن هناك علاقة طردية منضبطة بين زيادة زخم الإصلاحات وبين ارتفاع سقف المطالب واستعجال النتائج. فكلما ازداد زخم الإصلاحات ارتفع سقف المطالب واستُعجلت النتائج، فهذه طبيعة النفس البشرية، فهي دائما ما تتطلع إلى المزيد. وهي طبيعة إيجابية إذا ما توجهت لدفع المجتمعات البشرية للتطور والنمو، وتصبح طبيعة سلبية إذا ما توجهت لتبرير الكسل أو العجز أو توجهت في التنافس السياسي الهدام أو لتفريغ عوامل الحسد الذاتية والمنافسة الاجتماعية السلبية.
وهناك أيضا علاقة طردية بين عمق إستراتيجية الخطط الإصلاحية ومتانتها وشموليتها وبين عدم تقبل الشارع لها ومقاومتها. فكلما ازدادت الخطط عمقاً ومتانة وشمولاً ازداد عدم تقبل الشارع لها. فالعمق يعني تقدم مستوى الخطط علمياً، والشارع سطحي الفكر، فيصعب عليه فهمها فيسهُل التلاعب به وإثارته ضدها، والإستراتيجية تعني نظرتها الزمنية الطويلة الأجل، والشارع يستعجل النتائج. والمتانة في التنفيذ ضمان لاستمراريتها وتطويرها لكيلا تزول وتتهدم، وهذا يستلزم شمولها لعموم الاتجاهات المهيمنة على الشارع. وشمول الاتجاهات المهيمنة على الشارع، يعني قبول تنازلات من جميع الأطراف وحوار ومفاوضات وهذا مُتعسر في مُجتمع لم يعتد على الاستقلال الفكري، فالمجتمع غير المستقل فكرياً، يكون رأي الأغلبية فيه في الواقع هو رأي الأقلية المتحكمة في عقول الأغلبية. وهذه الأقلية المتحكمة في عقول الأغلبية ترفض أي تغيير أو إصلاح قد يؤدي إلى الاستقلالية الفكرية للأغلبية، لذا يصعب في مجتمع كمجتمعنا أن تكون خططه شاملة للاتجاهات الفكرية، وذلك لأن أى خطة إصلاحية تشمل اتجاهات الشارع في مجتمع لم يعتد على الاستقلال الفكري، هي خطة فاشلة للزوم كونها متخلفة لحتمية تخلف الشارع التابع فكريا لأقلية والتي غالبا ما تكون متخلفة. فلولا التخلف لما تحكم الأقلية برأي الأغلبية.
والمعضلة هنا أنه إذا أراد قادة البلاد المضي بها دون شمولية الاتجاهات الفكرية ثار الناس على الإصلاحات وطعنوا فيها واتهموها بالفساد وبالمؤامرات حتى تضطر القيادة إلى التحول عن الخطط الطويلة الأجل إلى قصيرة الأجل، وإلى التخلي عن كثير من المشاريع أو إزاحة قاداتها الأكفاء إرضاء لاتجاهات الشارع. وفي قصص الأمثال أن أهل مدينة مروا بنهر الجنون فشربوا كلهم من مائه إلا أميرهم، فغدوا جميعهم مجانين إلا أميرهم. فما عادت آراؤه وأحكامه العاقلة تناسبهم فاتهموه بالجنون وتمللوا منه فما كان من الأمير إلا أن شرب من النهر ليدركه جنون قومه، فجن معهم فرضوا عنه. ولا يعتقد أحد بسخافة هذه الحكاية فشواهدها كثيرة عبر الأزمنة والأمكنة. وأقرب شاهد عليها ما يسمى بالصيرفة لإسلامية، وقد حاول المُشرعون والبنوك عندنا مقاومتها لفترة طويلة فاتهموا وطعن فيهم، فما كان منهم إلا أن قبلوها ثم أصبحوا مشرعين لها.