أعتقد أن أعظم مُخاطرة استثمارية في السعودية اليوم هو الاستثمار العقاري. ومرتكز المخاطرة فيه هو أسعار الأراضي. وليس جميع السعر، بل جزء منه فقط الذي هو من جهة العرض، وهذه هي المخاطرة الحقيقية الطويلة المدى والثابتة. وبعد ذلك هناك مخاطرة الدورة الزمنية لانهيار الأسعار الوهمي الناتج من الأثر التضاعفي النفسي الذي يحدث بعد أي صدمة سعرية. فأسعار الأراضي لا بد أن تنخفض عندنا، وذلك من أجل الاستقرار السياسي والاجتماعي والنمو الاقتصادي، وسيكون هذا بكسر احتكاريتها من الجهات الحكومية المنظمة والمشرعة، وذلك إما بفرض كلفة سنوية على مُلاكها بغض النظر عن اختلاف المسميات (كزكاة أو ضرائب أو رسوم سنوية) وبمصادرة المنح التي منحت بشرط إحيائها وهي لم تُحي إلى اليوم (ويخبرني بعض المطلعين بأن هذه الأراضي هي معظم الأراضي المعطلة).
ونزول أسعار الأراضي في حالة كسر الاحتكارية، سيكون من جزءين: انخفاض ثابت + وانهيار زمني مؤقت. والمستثمرون في الاستثمارات العقارية هم كذلك نوعان: ملاك مدينون (كالمواطن والشركات الاستثمارية العقارية) وممولون دائنون (كالبنوك وشركات التمويل العقاري).
فانخفاض أسعار الأراضي الذي سيحدث بسبب زيادة المعروض من الأراضي، فيما لو كُسرت احتكاريتها، سيكون ثابتا لأنه يحكي سعر توازن المعروض من الأراضي مع الطلب، لذا فسيكون ثابتا لمدة زمنية طويلة ولن يؤثر على البنوك والجهات الممولة، وإنما سيكون تأثير الخسارة فيه خاصة بالمُلاك كأصحاب البيوت وشركات العقار، لما سيفقدونه من قيمة ممتلكاتهم. فهذا الجزء من الانخفاض الحقيقي لسعر الأراضي الذي يحكى سعر توازن السوق لن يزيد على 50% من سعر الأرض، وبالتالي ما يساوي 20 - 30% من سعر الاستثمار العقاري، على أساس أن كلفة الأرض يشكل 40 - 60% من كلفة الاستثمار العقاري عندنا، فالمُلاك في حالة الانخفاض الحقيقي فقط لا يتعرضون إلى الإفلاس لأنهم لن يقلصوا خسائرهم بالإفلاس. فالبنوك والممولون، في هذه الحالة سيستولون على العقارات ويبيعونها ويتحصلون على حقوقهم أو غالبها لأنهم دائنون «ديانة» لا ملاك. لذا فملاك الاستثمارات العقارية سواء أكانوا أفرادا أو شركات سيتحملون الضربة ولا يلجأون للإفلاس فهو أجدى اقتصاديا لهم.
ولكن ليس هذا هو السيناريو المتوقع، فالسيناريو المتوقع أن انخفاض الأراضي في حالة كسر احتكاريتها سيدخل في مرحلة انهيار بسبب ردة الفعل النفسية السوقية الحتمية. (والمالك وخاصة الساكن يصبر على انخفاض قيمة المنزل، ولكن الممول لا يصبر على تعثر تمويلاته عند الآخرين، لأن لهذا تبعيات أخرى). وهنا سيكون انخفاض أسعار البيوت والمجمعات ونحوها كبيرا، إلى درجة سيدفع بالملاك للإفلاس لتقليص خسائرهم، كما حدث في أزمات الرهن العقارى العالمية وآخرها الأزمة الأمريكية. وهذا الوضع خاصة متكامل أركان وقوعه عندنا، فعمليات التمويل العقارية حديثة نسبياً، وما زال المُلاك الدائنون لم يسددوا معظم تمويلاتهم. والغالب لديه مسكن بديل مؤقت ينتقل إليه إلى أن يشتري باسم أخيه أو قريبه مرة أخرى بالأسعار المنهارة. فمثلا لو كُسرت احتكارية البنوك وحدث الانهيار بسبب ردة السوق ونزلت أسعار المنازل إلى النصف أو أقل (كمنزل بمليون يصبح بنصف مليون). والمالك قد دفع 25% من سعر المنزل عند شرائه أي أنه كان يملك الربع والثلاثة الأرباع مرهونة بالدين لدى البنك، فبهذا فقد أصبحت ملكيته بالناقص وهي - 25%. أي فبالإضافة إلى خسرانه لـ25% بالمئة التي دفعها، فهو يملك منزلا بقيمة نصف مليون مقابل دين بقيمة 750 ألف ريال، فالأجدى له أن يُفلس ويدع البنك يشاركه الخسارة، لأن في حالة إفلاسه سيستولي البنك على المنزل ويبيعه ويسترجع نصف مليون من الدين المقدم، ولكن البنك مازال خاسراً بقية الدين وهو 250 ألفا والمالك قد خسر 250 ألفا، وهذا السيناريو يحدث طبعاً في البلاد الرأسمالية الغربية. أما عندنا فلن يتضرر البنك مطلقا. لأن البنك لا يرتهن فقط المنزل، بل الراتب في حالة المواطن وموجودات أخرى في حالة المستثمر، فالبنوك عندنا لا تشارك مطلقا في المخاطرة.
وهذا يشرح سبب استمرار البنوك بالتمويل العقاري، لأنه لا مخاطرة عليها في حالة انهيار أسعار العقارات المتوقع تماما كما فعلت في تمويلاتها للأسهم، فلم يكن عليها مخاطرة في حالة انهيار الأسهم المتوقع لديها، بسبب رهن الرواتب للمواطنين والموجودات الأخرى للشركات، ولهذا سقطت البنوك في الغرب لمشاركتها المخاطرة بعدم ارتهان إلا الأصل الممول فقط، ولم تسقط عندنا لأنها ترتهن ما لا يستطيع المُتمول التخلي عنه.
وهذا كذلك يشرح أسباب التأخر في فرض الأنظمة التي تكسر الاحتكارية كالزكاة والاسترجاع للمنح. فكلما طال التأخير ازدادت التمويلات واتسعت المشكلة الاقتصالية والمالية لو كانت البنوك تشارك في المخاطرة، ولكن بما أن البنوك خارج معادلة المخاطرة، فالجهات الحكومية المنظمة والمشرعة لكسر احتكارية الأراضي تمشي مشي السلحفاة، فلن تكون الأزمة في حالة انهيار أسعار الأراضي، بأسوأ من أزمة الأسهم الذي تحملها المستثمرون لا البنوك.