** من لم يعشْ حقبة الثمانينيات والتسعينيات الميلادية خلال أزمةِ الصراع «الحداثوي التقليدي» فإنه يعيشُها اليوم بعد ما تبدلت الصورةُ وصار مستهدَفو الأمس مستهدِفي اليوم وكأنها تصفيةُ حساباتٍ بين خصومٍ شاء المنهزمُ سابقًا ردَّ اعتباره لاحقًا ولو تجاوز المعاييرَ الأخلاقيةَ للجدل اتكاءً على شعار «البادئُ أظلم».
** الفارق بين الحقبتين استنادُ الأولى على الوسائط الإعلامية والمنبرية التقليدية، وإضافةُ الوسائطِ التقنية للثانية، وهو ما ضاعفَ المتورطين في الحوار المملوء بالتنابز والتدابر، وكان الميدانُ خاصًا بالمثقفين من الجانبين المتناوئين فصار لكلِّ من لديه «لوحة مفاتيح» دورٌ فيها ولو لم يعِ أبعاد اللعبة الخلافية وشروطَها والتواءاتِها ومتغيراتها التي قد تنقلبُ عبر قرارٍ أو مسار.
** عايش صاحبُكم الفترة الأولى فنأى بنفسه وقِسمه «الصحفيِّ» عن العِراك ولم يعبأْ أن غردَ خارج السرب حينها، وفيما كانت معظم الصفحات الثقافية مَعويةً أو ضديةً فقد أعرض بصفحاته عنها مفوتًا فرصَ الإثارة والانتشار؛ فما يُكتب يومًا سيبقى دومًا ولن تمحوَه من ذاكرة الثقافة أوبةٌ واستغفار.
** الجميع يشهد الآن الفترة المأزومة الثانية والأغلبيةُ يشاركون فيها، وربما قُرئت بوصفها انتقامًا من تيارٍ ضدَّ آخرَ ونُخَبةٌ مناوئة لنخبةٍ واستُدرج الدهماءُ لمعارك لم يعيشوها أو لم يعوا خلفياتها أو لم يقدروا نتائجها المشَظِّيةَ للبناء المجتمعي خالقةً احترابًا ثقافيًا عبر لغةٍ عاليةٍ يسيطر عليها التشنج والاستعداء.
** وهنا إشارة؛ فبالرغم من تصنيف كتاب اللواء الركن محمود شيت خطاب (طريق النصر في معركة الثأر) على أنه من كتب المرحلة التالية لنكبة حزيران 1967م فقد استوقفت صاحبَكم وقت قراءته مفردةُ «الثأر» فمعارك الثأر خاسرة مهما كانت بواعثُها، واليقين أن الموقف مع «يهود» هو موقفٌ مبدئيٌ يمثل صراع وجود لا صراع حدود، غير أن عنوان الكتاب ينطبق على الوضع التقسيميِّ الآنيِّ إذ نشهد معارك ثأريةً تبادليةً ينتصر فيها فريقٌ اليوم فيقتص فريق غدًا، وكلٌ يسعى للانتقام من مرحلة التحجيم والتكميم التي ذاقها قبلاً أو يذوقها بعدًا ويبقى المجتمع منتهبًا للطَّرف القائد والظرفِ السائد.
** تؤثر هذه الغِلالاتُ القاتمة على النسيج الاجتماعي وتُضعفُ ترابطَه وتشحن الجوَّ العامَّ بأساليب التخوين والتخويفِ واستمالة الأكف لتلتهب صفقًا أو تصفيقًا وتتوارى لغةُ التنوع التكاملي والتعددية المتسامحة ويتهيأُ المشهد لثاراتٍ وغاراتٍ قد تمتد من الكلامِ إلى الكلِم ليفرز الهذْر هدرًا وهديراً.
** لسنا بحاجةٍ لاستعادة تأريخٍ بعيد؛ فما زلنا حديثي عهدٍ بنماذج متعددة من الخصومات الثقافية والسياسية والقبلية العبثية، وما يجري اليوم من تحشيدٍ وتوتيرٍ وخطاباتٍ إقصائيةٍ نذيرٌ بما هو أسوأ، والمشكلة أن الكبار يختلفون في التنظير فيغرق أتباعهم في التناحر.
** منطقُ الثأر والفجورُ في الخصومة والتدليسُ على الدهماء وتداخلُ العارف والهارف سماتٌ انفردت بها الموجة الثانية من جدلية الصراعِ المؤدلج وناتجها فُرقةٌ تتبرأ منها فُرقة الأمس.
** الثأرُ فقر.