أسلفتُ افتتاحيةَ (مايوكوفسكي) المُوحِيَةَ بأنها الْتذاذ بالرومانسية بينما موضوعُ القصيدة ثورةُ ماركسيٍّ على أشجان الرومانسيين، وأَشَرْتُ إلى تقصير المترجم رفعت سلَّام في تحليل دلالة النص، وها نحن نجد في هذا المقطع التالي بعد الاستفتاحية مباشرة قوله:
[هَلُمِّي لتتعلَّمِي.
أيَّتُها الآنِسَة «نَاو - نَاو - نُو - فُولِنج».
الملائِكيَّةَ الصَّارمةُ كَما جدارُ الهاوية.
هَلُّموا أنتم أيضاً يا مَن تتصفَّحون الشِّفاهَ في هُدوء.
كطاهيةٍ تَتصفَّحُ كُتُب فنِّ الطَّهْي.
لو تَشاؤون.
يُمكنني أن أُصبِحَ مَحْضَ جَسدٍ مَجنونٍ
نقيضاً للقصَّة الرُّومانسيةِ الرَّقيقة.
أو عَذْباً ورقيقاً كما تُريدون،
ليس رجُلاً وإنما غَيْمةٌ في بنطلون].
قال أبو عبدالرحمن: هذه القصيدة الطويلة الأُمُّ لم تُحْظَ من المترجِم إلا بمفاتيح قليلة آخر الديوان، لا تتجاوز عشرين سطراً، وإشاراتٍ إجماليةٍ لا تُسمِن ولا تغني من جوع خلال مقدمته، وخلال صفحات 50-55 من مقدمته؛ فلم يكن قائماً بالضرورة التي أسلفتها عن كون المترجم كمحقِّق المخطوطات؛ لأن ذلك هو العمل الأهمُّ لتفسير النص المُتَرْجَم.. ومع هذا فلم ترد أيُّ إشارة عن مفردات هذا النص، وأما الشاعر في مقدمته التي هي سيرة شخصية فلم يذكر عن القصيدة إلا أنها فكرة ثورية عكف عليها من بداية عام 1914م؛ فأي عربي لا يجيد لغة ثانية سيفهم: (ناو - نو - فولنج) سوى معنى (لا) في (نو)، وما الدلالة الكليَّة في سياق هذه المفردات؟؟.. وأما المعنى المُباشِر عن الفكرة الثورية فنلمحه من صورة الشيوعي الثائر على الهموم الفردية في أحضان الرومانسية؛ وبهذا نعلم قوله السابق:
[لكن هل يستطيعُ أحدٌ أنْ يَقْلِبَ دَاخِلَه في الخَارِجِ مِثلي
ليُصبِحَ لا شَيءَ سِوى شِفَاهٍ بِلَا جَسَدٍ أو أَعْضَاء].
فلقد أهمل المترجم دلالته؛ فلم يُظْهِر للمتلقِّي إلا أن الشاعر سيكون مُضنى بالحبِّ، والمقطع الأخير نفى هذا المَعْنى الظاهريَّ، وبيَّن أنه لو لم يَثُرْ على الرومانسية فلن يكون سوى شفاهِ عاشقٍ بلا جسد، ولكنه استطاع بثورته أن يكون آلة صماء بلا روح!!.. وهو مع الماركسيين جملةً ثوريون [والواقع أنَّهم مُسْتَلَبون مرغمون على هذه الثورة التي تكسِرها سُنَّة الله في كونه]، وجعل الشاعر رِفاقه (وكانوا مُسْتَلَبين بعد جَزْرِ الملايين كمجزرة المَجَرِّ المُروِّعة) ثوريين جبارين أعطاهم صفة الملائكة كرَّمهم الله، مستعيراً صفتهم بأنهم غلاظ شداد، وحكم بأن بطشتهم جدارٌ هاوية.. والنقيضُ لذلك تعميمُه الرخاوةَ على الرومانسية، وتعطيلُ الفردِ من مشاعره؛ ليكون آلة صمَّاء، واختصر الرمز بجملة (غيمة في بنطلون).. أي أن الهَمَّ الرومانسيَّ شهوةٌ تنطفي كغيمة تنجلي عما قريب، وكذب في هذه الدعوى؛ فالرومانسيةُ أُلْفةُ روحٍ لروحٍ لا تنحَطُّ إلى المفاتن الجسدية، والرومانسي عاشقُ أخلاق.. وليست كل المشاعر الجُوَّانيَّة من هذا الباب، كما أن المشاعر عموماً، ومشاعر الحب الرومانسي الطاهر: هي الوقود للفرد الحركي العامل حَقَّاً، المُؤَثِّر بالنفع في مجتمعه.. وبغير المشاعر يكون من بهيمة الأنعام التي يُسنَى عليها.
قال أبو عبدالرحمن: كنتُ وآلاف قبلي رومانسياً مُفْعَماً بغذاء القلوب أو وَهَنها، وكان ذلك هو العاملَ الأكبر في شحذ موهبتي لِما أنا مُتَفرِّغ له من الأعباء الثقافية والعلمية والفكرية.. وهو العامل الأكبر في دفعي إلى اكتساب الرزق بكدحٍ وكفاحٍ مرير؛ لأسْعد ويَسْعد من حولي.. وأكسبتني الرومانسية الواهنة شفافيةً أشكر الله عليها، وارتبطتْ تلك الشفافيةُ بجبلَّتي الفكرية؛ فأحسنتُ المعادلةَ؛ فكانت الرومانسية الواهنة إرثاً في وِجداني يَلْحَسُ كل همومي؛ فما كنتُ مُقَطِّباً البتة؛ بل كنتُ دائماً مبتسماً على الحلو والمُرِّ؛ فالحمد لله شكراً شكراً.. وبالله ثم بالفكر الشفاف بعد الرومانسية الواهنة انتقلت إلى رومانسية غذاءِ القلوب بشفافية أيضاً في الروح التي يُؤلمها الندم على التقصير والتجاوز، ولا يَقْعد بها عن الإنابة والأشواق والتمتع برعاية رب كريم غفور ودود.. وقصارى القول: إنني لم أجد في ترجمات الأدب مُهِمَّتَي المترجِم ومُحقِّق المخطوطات؛ وإنما الموجود إما هذا، وإما هذا.. إن ترجمة الأدب ترجمةً ثقافيةً تقتضي مُهمَّة التفسير وبيان ثقافة النص وفكره عند محقق المخطوطات؛ فيذكر الأسماء لمسميات آدمية أو مكانية أو حيوانية أو أسماء منحوتة للرمز كما هي في اللغة الخواجية اقْتراضاً؛ إذ لا سبيل للتعريب إلا ما كان له في لغتنا رديف.. وكم في اليابسة والبحار والأجواء من مُسَمَّيات حيوانية ونباتية وأفلاك.. إلخ لم يعرفها العرب؛ فكيف نلتمس من لغتهم اسماً لشيء لم يعرفوه؛ فيدُلُّوا عليه باسم من عندهم؟!.. وعبقرية اللغة ذات أخلاقٍ تأبَى استئناف التسميةِ لِما لم يكن مِن معرفتها ولا من صُنْعِها، بل تنمو بالاقتراض الأمين مع محاولة التقريب ما أمكن في النطق وَفْق أوزان لغتهم، ويُسْر مخارج حروفهم.. ثم بعد العمل التفسيري إن كان المُترجم أديباً فناناً يجعل عمله السابق مُقدِّمة بدل المُقدِّمات الفضولية، ثم يستأنف الترجمة المعنوية التي يجب عليه أن يُسْدِيها إلى تراث أُمَّته، فيترجم دلالة المسميات، ومعاني النص الكلية فكراً وبلاغة؛ فإن صح أن من الصور المجازية ما هو مُحال تعريبه (وما أظن ذلك صحيحاً) فليذكر الصورة المقارِبة من بلاغة قومه.. وإن كان ذا دراية بلحن النص وإيقاعه ونَبْرِه عن سماعِ غناءٍ أو سماع إيقاع فليتخذ من ذلك قالَباً لِلَّحْن ونِسَبه المكانية والزمانية، وعلاماتٍ على ما يُنْبر من الحروف؛ ليثري تراث أمتهذلك؛ لأن اللحن والإيقاع والنبر في كلام البشرية أعم مما هو مأثور تاريخي في تراثنا.. فإن لم يتيسر له ذلك فلا بُدَّ أن يُحقِّق هُوِيَّة الشعر؛ فيترجمه موزوناً؛ فإن لم يَأْمَن الفضولَ من صرامة البحر والقافية فليختر وزن التفعيلة؛ ففيها مأمَنٌ عن الفضول.. وهذه القصيدة (بغض النظر عن فكرها الماركسي) ذات صور مُجَنِّحة كصورة (غيمة بنطلون)؛ فعسى أن أُوَفَّق إلى نقل هذه الصور بشعر عربي مُبِين، وببلاغة تجمع بين الجديد والمأثور.
قال أبو عبدالرحمن: مثل هذا النموذج (وهو كما أسلفتُ مثالٌ لترجمة الدكتور عبدالغفار مكاوي) استفتيتُ عنه نموذجاً من ترجمة مكاوي نفْسِه معاليَ الدكتور الخويطر فبيَّن لي - حفظه الله - أن النصوص المباشرة من فقه وقانون وفلسفة تُوَصِّل الترجمةُ معانيها مُطابقةً؛ وبهذا يكون نص مكاوي العادي بلا ملامح جمالية إنما هو بسبب هذه الظاهرة.. وكنتُ طرحتُ هذا الاستفتاء على معالي الدكتور غازي القصيبي قبل ذلك بسنوات بلندن؛ فأفاد بهذه الإفادة؛ فذكرت له ترجماتٍ مُجَنِّحة في منتهى التألق الجمالي كترجمات الزيات، ودريني خشبة، وتجليَّات أحمد رامي في ترجمة بعض النصوص من رباعيات الخيام، وزادها جمالاً أنها بلحن السنباطي، وأنها من مقام راست، وأنها مُتَعَدِّدة القوافي.. ومثل ذلك تماماً ترجمة الصاوي شعلان لقصيدة (حديث الروح) لمحمد إقبال إلا أنها على مقام (هزام)، وهو جميل أيضاً، ومنها هذه المقاطع، وكل مقاطعها جميلة:
حديث الروح للأرواح يسري
وتدركه القلوب بلا عناءِ
هتفتُ به فطار بلا جناح
وشقَّ أنينُه صَدْر الفضاء
ومعدِنُه ترابيٌّ ولكن
جرتْ في لفظه لغة السماءِ
لقد فاضت دموع العشق مني
حديثاً كان علوي النداءِ
فحلق في ربى الأفلاك حتى
أهاج العالم الأعلى بكائي
* * *
قيثارتي مُلئت بأنَّات الجوى
لا بد للمكبوت من فَيَضانِ
صعدتْ إلى شفتي خواطرُ مهجتي
لِيبينَ عنها منطقي ولساني
أنا ما تعدَّيت القناعة والرضا
لكنما هي قصة الأشجان
يشكو لك اللهم قلب لم يَعِشْ
إلا لحمد علاك في الأكوان
* * *
إذا الإيمان ضاع فلا أمانٌ
ولا دنيا لمن لم يُحْيِ دينا
ومن يرْضَ الحياة بغير دينٍ
فقد جعل الفناء لها قرينا
وفي التوحيد للهِمَم اتِّحاد
ولن تبنوا العلا متفرقينا
* * *
ألم يبعث لأمتكم نبي
يُوحِّدكم على نهج الوئام
ومصحفكم وقبلتكم جميعاً
منار للأخوَّة والسلام
وفوق الكل رحمنٌ رحيمٌ
إله واحد رب الأنام
إلا أن السِّت غيَّرت القافية بوصل الهاء هكذا: (دينه)، وأبقت الباقي على وضعه هكذا: قرينا، ومتفرقينا.. وهو تصرُّف جميل لو قَبِلت بقيةُ القوافي وصل الهاء؛ وأمَّا إذْ لم تقبل فذلك نشاز.. إلا أن الدكتور غازي لما ذكرتُ له هذه الترجمات المُجَنِّحة فسَّر هذا بأن المترجِم شريك الشاعر في الأداء؛ لأهليته الشعرية الفنية وليس كل مُتَرْجم كذلك.
قال أبو عبدالرحمن: الترجمة على صفة مُحَقِّق المخطوطات أمانة لا بد من تأديتها حرفياً، ثم يلي ذلك بيان الدلالة البلاغية أو الفكرية التي أُسمِّيها (كُلِّية الجملة)؛ لأنها تُحدِّد المراد؛ فلو وُفِّق المترجِم الخواجي لفسَّر (اللباس) في الآية الكريمة بكل لباس يستر جميعَ البدن ولم يقصره على (البنطلون)، ثم بيَّن الدلالة الكلية بتداخل الأعضاء بدافع المَوَدَّة والمرحمة كَمُداخلة اللباس الجسم، وبيَّنها أيضاً بسترِ العفاف كما يستر اللباس؛ لأنهما غَنِيا ببعضهما عن الرذيلة.. وبعد هذا العمل التفسيري انتهت أمانة المترجِم؛ فإن كان أديباً فناناً استأنف العمل بترجمة فنية ليستْ كترجمات الدكتور عبدالغفار مكاوي؛ فإن لم يكن كذلك ترك المهمة لغيره.. ومن الحق الواجب والأمانة المقدَّسة أن يُبيِّن من تحمَّلَ المُهمَّة بكل صراحة أنه عالة على الترجمة التفسيرية التي سبقته إلا أن يكون عنده زيادة خِبْرة بسياق المذاهب الأدبية عند الأمم مِن عطائها المُتَرْجَم، أو استدراك حول تفسير النص لمزيد خبرةٍ عنده باللغة الثانية خُصوصاً؛ فيبيِّن ذلك في مقدمته.. وفائدةُ هذه الثنائية بين الترجمة التفسيرية والترجمة الفنية الجمالية: أنَّ المُتلقِّي في اعتنائه بالتراث العالمي والعطاء الإنساني بحاجة إلى أمرين مُتلازمين: أولهما فهم النص بتفسير حرْفي وكُلِّي؛ ليثري ثقافته وعلمه وفكره.. وثانيهما الاستمتاع بترجمة أدبيَّة جماليَّة تشحذ إحساسه الجمالي؛ وإذْ انتهتْ مُهِمَّة المُترجم التفسيري والجمالي: فلم تَنْته مُهِمَّةُ المُتلقِّي، بل عليه أن يجعل هذا العطاء الإنساني مذخوراً في ذاكرته أو في طروسه؛ لِتُدْرِكه غَيْرَة الغبطة فَيُعْمِل موهبته في توليد تعبيرات بلاغية، ولِيُوَظِّف ما وعاه من بلاغة الآخرين في سياق أغراضه بتحوير أو بغير تحوير سوى اختلاف المراد؛ وذلك هو معنى التوظيف.. والسر في هذا أن البلاغة نَقْلٌ لغوي بحت من جهة المفردات، وهي عطاء مُبتكَر من جهة التركيب؛ لما يُؤَدِّيه التركيب من معانٍ كُلِّية مبتكرة فكراً وجمالاً.. ولم تكن البلاغة إلا من أجل التحرُّر من ضيق دلالة المُفْردة، ومن أجل الاستراحة من سأمِ المكرَّر المُسْتهلَك.. ألا ترى أن العربي سَئِم واستبْرد تكرار مثل: رأيت أسداً، وفلان بحر، أو طويل النجاد كثير الرماد، أو ليس في بيتي للفأر مقيل.. بل إن العوام تخلَّصوا من هذا الملل بجملٍ إيحائية كقولهم: (فلان ظَلْما) إذا كان كتوماً للسرِّ، و(كُحْلُ باكية) كناية عن ضياع الجُهْد أو المال.. وما أكثر مثل هذه الصور في مأثورهم؛ فالبلاغة إذن سَعَة في التعبير، وجمال في الأداء، ووجوهها كثيرة يُجَدِّدها نشاط الفكر المُتْخم بالثقافة كلما استُهلِكت؛ فمن وجوهها الكثيرة تراسل الحواس كما سلف عن بركانية الشُّعاع، وشَعْرة رمادية في روحي، وقُبْلَةٍ حارة؛ فهذه علاقات نفسية، وقد كان أكثر ما عند العرب في المجاز العلاقة العقلية والحسية الظاهرة.. وأما دلالة المُسَمَّى والانطواء بدلَ ضيقِ دلالة الاسم فأنعم بها وأكرم ثراء وجمالاً؛ فمنها تداعي المعاني المباشرة، وتداعي الأفكار الاستنباطية، واستغلال الدلالة التَّضمُّنية واللزومية، ودلالة اقتران المُسمَّيات في الزمان والمكان كما بيَّنتُ ذلك بإسهاب في دراستي قصيدةَ البياتي (سوق القرية) على طريقة التَّصويريِّين الطبيعيِّين، ولذلك مجال رحب في دراساتي الأدبية والألسنية إن شاء الله تعالى.. بل إننا نُغذِّي سَعَةَ الدلالة بهيئات بعض ما نشاهده مثل العبارة الجميلة (لعب دوراً) التي استعرناها من هيئات المسرح.. واللَّعب عبث غير مرغوب فيه، ولكنَّ نتيجته في المسرح (إتقان الدور)؛ فهو صفة مدح، ولم يغفل العرب عن هذه الدلالة؛ فلقَّبوا الفارس العامري بملاعب الأسنة؛ لمهارته في الفروسية؛ فهي في المدح بإطلاق، ولكنك إذا قلت مثلاً: (لعب صاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل دوراً في الموضوع الفلاني) فإنك تُطلق التعبير؛ فإن قلت: (لعب كيسنجر دوراً في زياراته الشرق الأوسط) فلا تُطلق؛ بل قيِّد بقولك: (دوراً عدوانياً، أو ظالماً، أو قبيحاً)؛ لأن إتقانه دورَه مهارةٌ غير محمودة.. ولي عودة إن شاء الله عن قابلية الأمور غير الأدبية لترجمة أمينة.
قال أبو عبدالرحمن: وأما النموذج الثاني من الترجمات فأسْتَجْلِبه لكم من رباعية واحدة من رباعيات الخيام حينما درجتُ مع أخي الأستاذ عبدالله الماجد في غير عُشِّنا؛ فتكلَّفنا قبيل عام 1389هـ بسنتين تقريباً المقارنةَ بين ترجمات رباعية واحدة من ترجمات الرباعيات كلها وَفْقَ ما في أيدينا آنذاك من تراجم عربية؛ فكان ذلك نواةَ كتابِ (الفناءُ الباقي في رباعيات الخيام وغرامه/ أو فلسفة الكوز)، وهذا العملُ على الرُّغم مما فيه من ثراء أعدُّه مَدْخلاً موجزاً لدراسةِ أدبِ الخيامِ دراسةً جادة؛ ولهذا سأظل إن شاء الله في تواصلٍ مع هذا الموضوع حسب القُدْرة والفراغ والنشاط.. والبداية (المدخل الموجز) قد غربله التنقيح ثلاث مرات: الأولى عندما نشرناه بجريدة المدينة عدد 1953في 25-6-1390هـ، وعدد 1965، و1989، و1995، و2001، و2025.. والثانية: عندما نشرنا منه نسخاً بالاستنسل عام 1394هـ.. والثالثة: عندما نشرناه في كُتَيِّب عام 1398، وكان في كل مرة: صورة جديدة.. وهذا العمل في غرورِ مرحلةِ الأشدِّ وصَلَفِه؛ ولهذا قلت في الإهداء: «إلى كل من نفخ أبو مرة [هو إبليس لعنه الله] في خيشومه؛ فتورَّم عرنينه وترنَّح على الغبراء بصلف: أهدي هذه النفحات الخيامية وأقول له: إن لم تترفق تواضعاً للأحياء:
فامش الهوينا إن هذا الثرى
من أعين ساحرة الاحورار
أبو عبدالرحمن .. أصالة عن نفسي، ونيابة عن الخيام».
وبعثتُ بنسخة من النشرة الثانية إلى الشاعرة الناقدة البلغية (نازك الملائكة) في 11-5-1974م مغتبطاً بالحلقونة عند أهل خيبر!.. فورد جوابها العاطر في 4-6-1974م، وقالت: «أما الكتاب فقد بادرت إلى قراءته فور وصوله، واستمتعت به، وبما فيه من عرض جديد لفلسفة الخيام، ولكني أراني أودُّ لو تفرغتَ لإتمامه كما وعدتَ في ثناياه مُغْنياً إياه بدراسة ضافية عن هذا الشاعر المسلم الفذ [بل عنده أوشاب كثيرة] الذي شغل العصور، وأسعد أجيالاً من المفكرين والشعراء؛ وذلك عندي (إذا سمحت لي: أن أُبدي رأْيي) أفضل من كراسة صغيرة، لا تُروي عطشاً؛ وإنما تستثير في النفس رغبة إلى شرب المزيد».. ثمَّ لقِيتُها في الكويت بُعَيْد ذلك بسنة أو سنتين - نسيت - بصحبة الأستاذ حمد القاضي؛ فاسْتَعْجلتني الوفاء بما وعدتُ به؛ فأرجو أن يكون هذا العمل هو البداية.. وأما الشاعرة عاتكة الخزرجي مُحقِّقة ديوان مهيار الديلمي فما تركتْ توديعنا حتى صعدنا الطائرة؛ لمراسلات بيننا سابقة أكثرها حول ديوانها (أنفاس السحر).
قال أبو عبدالرحمن: أعظم ما أغتبط به شهادة الشاعرة نازك بجودة العرض؛ وأما استيعاب دراسة حياة الخيام وأدبه فمطمح أرجو أن أُعان عليه. وحسبي أنني أخذت شذْرة من أدب الخيام فاستوعبتها، وفي هذا وحده ما يُرضي المنهج العلمي الحديث.. ولم ترد ترجمة الدكتور (جميل الملائكة) في المقارنات ابتداءً؛ فتكرَّمت أستاذتنا نازك بإهدائنا ترجمة خالها، ومن ثم أوردنا ترجمته للرباعيات في معرض المقارنة.. وفي النشرة الأُولى لهذه الدراسة استوعبنا الفناءَ الباقي من الرباعيات، وقارنَّا بين الترجمات؛ وكانت هذه الطريقة منهجاً تُحقِّق التالي: إبراز المعنى المنقول عن الخيام على وجه الصحة، والطريق إلى ذلك اتفاق المترجمين على معنى واحد ولاسيما إن كانوا مِمَّن ينقل عن الفارسية مباشرة.. وتنميةُ حاسة الذوق بالمقارنة، واستبانةُ الرباعيات الشاذة التي ينفرد بها بعض المترجمين، ومعرفة ما كان ضرورةً استباحها الخيام وما كان ضرورة استباحها المترجم؛ وبهذا بعد الله نستطيع نقد رباعيات الخيام مباشرة.. ولقد شاركني أخي عبدالله الماجد في البحث على صورته المنشورة بجريدة المدينة، ولم يشاركني في الباقي؛ لهذا ذكرت اسمه على الغلاف واستأْثرتُ بضمير المتكلم الواحد!! ثم استجد عندي بعد ذلك ترجمات قليلة.. إلا أنه أدركتني مع أخي الماجد غَفْلةُ الصالحين فخلطنا؛ إذْ دمجنا رباعيتين في رباعية واحدة.. وقد كانت المقارنة التي أسلفتها على هذا النحو: قال الخيام بترجمة إبراهيم العريض:
صدقتك ما كل ذراتها
سوى حيرة الشمس في ذاتها
فلا تجُل عن خد حسناء ذَرّاً
أما هو خد نظيراتها؟
وقال بترجمة أحمد الصافي النجفي:
كل ذرات هذه الأرض كانت
أوجهاً كالشموس ذات بهاءِ
أُجْلُ عن وجهك الغُبار برفق
فهو خدٌّ لكاعب حسناء
هكذا جاء في طبعة مؤسسة البلاغ التي ذكر بمقابلها النص الفارسي ص 32 - 33، وهذا هو النص الفارسي:
هر ذره كه در روى زميني بوده است
خورشيد رخي زهره جبيني بوده
كَرد از رخ نازنين بارام فشان
كه اين هم رخ وزلف نازنينى بوده است
وفي الطبعة الخامسة عام 1998م لم ترد النصوص الفارسية .. وقال بترجمة الدكتور جميل الملائكة:
صاح رفقاً إذ تنفض الأردانا
إن هذا الغبار بالأمس كانا
وجه حسناءَ في مِراح الشباب
وقال بترجمة علي محمود طه:
اليدُ البيضاءُ في كلِّ الغصونْ
زهرةٌ تَنْدَى ونَوْرٌ يُشرقُ
والثرى من نَفَس الروح الحنون
مهجة تهفو وقلب يخفقُ
والرباعيات عند المهندس بعنوان كأس الخيام بديوانه ص 368-378 بجمع ودراسة سهيل أيوب نشر دار اليقظة بدمشق عام 1962م، وقد قال في مقدمة القصيدة: «رباعيات الخيام آية من مثاليات الشعر الخالد المتسم بالرقة والعظمة.. والخيام من أولئك الشعراء الذين حاولوا استكناه أسرار الكون، واستشراف المجهول: بالقلب المشبوب، والحس المرهف، والروح الطامحة المتوثبة، والخيال المرح المتفلسف، والعقل الذكي المتأمل.. ولكن القصور الإنساني ردَّه عن بلوغ متمناه، فأشعره بالألم، وأورثه الحسرة؛ فاندفع إلى نشدان المتعة في الخمر والمرأة؛ ليتسلى بهما عن عجزه ويأسه.. وقد صدحت هذه الرباعيات في نفس الشاعر [يعني علي محمود طه نفسَه]؛ فكتب قصيدة في الكأس، استهلَّها بوصف الشرق الجميل المستيقظ على صياح الديكة، وتغريد الطيور متأثراً بالمعنى الأول من قصيدة الخيام، منافساً في بعض ما عرض له من آرائه».. وقال بترجمة أحمد رامي:
فامش الهوينا إن هذا الثرى
من أعين ساحرة الاحورار
والترجمات التي اعتمدناها هي: ترجمة الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي، ولم يذكر مكان طبعها.. وترجمة أحمد رامي الطبعة الثالثة طباعة شركة فن الطِّباعة بالقاهرة عام 1950م.. وترجمة محمد السباعي طباعة مطبعة الاستقامة، وترجمة عبدالحق فاضل بعنوان (ثورة الخيام) ولم يذكر هُوِيَّة الطابع والناشر، وترجمة حسين مظلوم من الزجل مجهولة الهوية، وترجمة الأديب البحريني إبراهيم العريض الطبعة الثانية بدار العلم للملايين عام 1969م، وترجمة الدكتور أحمد زكي أبو شادي عن الترجمة الإنكليزية لفيتزجرالد طبع دار الطباعة الحديثة، وترجمة أحمد حامد الصراف طبع المعارف في بغداد سنة 1961م، وترجمة أبو النصر مبشر الطرازي طباعة دار الكتاب العربي، واسمها (كشف اللثام عن رباعيات الخيام).. وترجمة الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي، وهي الجزء الأول من ديوانه طباعة دار مصر.. وترجمة شاعر الرومانسية المصري علي محمود طه المهندس ضمن دواوينه طباعة دار اليقظة العربية بدمشق عام 1962م، وترجمة الدكتور جميل الملائكة بمطبعة الرابطة ببغداد الطبعة الأولى عام 1957م، وترجمة الأديب المصري إبراهيم المازني، وترجمة الناقد المستوعِب محمد غنيمي هلال، وترجمة مصطفى جواد، وترجمة وديع البستاني، وترجمة نويل عبدالأحد.. وفاتنا ترجمة قيصر المعلوف، وترجمة محمد الهاشمي، وترجمة توفيق مُفَرِّج، وترجمة طالب الحيدري.. وغالب تلك الترجمات أَفْرَغْتُ منها مكتبتي لضيق منزلي آنذاك، ولحاجتي إلى كتبٍ أخرى تَحِلُّ مكانها، ثم تملَّكتُ بعضَها لَمَّا اتَّسع رزقي وسكني، بل استجدَّ عندي ترجمة مصطفى وهبي التَّل (عرار) المطبوعة بدار الجيل ببيروت عام 1410هـ الطبعة الأولى، ومن المُهمِّ مراجعة مصادره ص 275 - 279، ووفِّق في ذكر المصادر بدل المراجع؛ لأن المرجِع هو ما راجعتَه ولم تصدر عنه بشيء، واستجد عندي ترجمة صالح الجعفري الصادرة عن الانتشار العربي ببيروت عام 2007م الطبعة الأولى، ثم استجدَّ عندي الكتاب الطُّلْعة (رباعيات الخيام بين الأصل الفارسي والترجمة العربية) للدكتور عبدالحفيظ محمد حسن الطبعة الأولى عام 1989م بدار الحقيقة للإعلام الدولي بالقاهرة، وهو أوعب كتاب في التعريف بمصادر ترجمة الخيام، والتعريف بالرباعيات ونُسَخِها، وتقصِّي جهود الأدباء حولها.. ولقد ذكر مما فاتنا من الترجمات ترجمة (آثرضوّْ)، وأحمد سليمان حجاب، ومحمد رخا.. وكلها باللهجات العامية، وذكر ترجة الشاعر المصري عبداللطيف النشار عام 1917م عن الإنكليزية؛ وإنما عُنيت مع أخي الماجد بمسألة الكوز في رباعيات الخيام التي رمزنا لها بالفناء الباقي؛ لكثرة ما ردَّدها بصورٍ مختلفة «وقد زعم (أديب التقي) في مقدمته لترجمة أحمد الصافي: «أن فلسفة الكوز تمثل 75 من الرباعيات»!!، ولا يحق لنا أن ننكر صحة هذا الزعم؛ لأن (أديب التقي) اطَّلع على ما لم نطلع عليه بالعربية وغيرها.. إلا أن ما اطلعنا عليه بالعربية وهو غير قليل لا يزيد على خمس وعشرين رباعية، وعدد الرباعيات التي اطلعنا عليها بالعربية أربعمئة رباعية».. ومقارنات الرباعية التي أسلفتها تعوقني عن إتمام الأهم، ويتعذَّر أكثره، ولكن حسبي أن أُضيف إلى ما مضى قليلاً مما استجد من مصادر، وإلى لقاء من أجل دراسة هذه المقارنة، والله المستعان، وعليه الاتِّكال.