يكتسب الكلام عن المعجمية أهمية بالغة حين يكون موضوع رسالة علمية جادة كرسالة الدكتور عبدالله بن عيسى الفضيّخ التي أعدها عن الصناعة المعجمية، وأدار الحديث فيها ببراعة وعمق واستقصاء حول محتوى معجم محيط المحيط للبستاني، ومن يطلع على المعجم بطبعته التي طبع بها تستولي عليه الدهشة لصبر هذا الباحث على قراءته كلمة كلمة، بل قراءة كتب كثيرة أهلته ليعالج موضوعًا كهذا الموضوع.
جاء معجم البستاني ليصل ما انقطع من سلسلة المعاجم العربية التي شهد لها علماء اللغة بالتفوق في غزارة مادتها وتنوع طرائق مداخلها، فهي معاجم ألفاظ ومعاجم معان ومعاجم أبنية، صنفت حسب مخارج الأصوات أو حسب جذورها ابتداءًا بأول جذر أو بآخر جذر، وكان آخرها المعجم الموسوعي تاج العروس للزبيدي الذي هو في ظاهره شرح للقاموس المحيط للفيروزبادي؛ ولكنه باستفاضته واستيعابه ونقده صار أصلاً، وأراد البستاني أن يتابع عمل الرجلين بشيء من الاختلاف أملته ظروف العصر ومتغيرات الأحوال، فجاء معجمه مستوعبًا مادة القاموس مع إضافات من مصادر مختلفة أفاض الباحث الفضيّخ في ذكرها في الفصل الأول لينتقل في الفصل الثاني إلى وصف عمل البستاني في معجمه، فبيّن آلية الترتيب الخارجي عنده للألفاظ المتنوعة التي منها العربي الخالص والدخيل والمعرّب، ثم الترتيب الداخلي في مدخل كل مادة، والترتيب الداخليّ للمدخل أمر لم تكن المعاجم العربية التراثية تراعيه بل كانت تسوق المادة بما يشبه الركام من غير ترتيب، وأمر الترتيب هذا من جملة ما يشترط في المعجمات الحديثة، وليس يقل عن الترتيب الخارجي والداخلي أهميةً طرائق التعريف لتلك المداخل والمعلومات المساعدة لتلك التعريفات، وهذا الأمر كان موضوع الفصل الثالث من الرسالة، وبعد أن استوى للباحث من أمر البحث ما كشف له جوانب العمل وتضاعيفه عاد، بعد بيان حسناته، ليبرز ما اعتور هذا العمل البشري من أوجه النقص ومن عيوب، على الرغم من براعة صاحبه وقدرته الفائقة في إنتاج معجم بهذا الحجم والكيفية، فجاء الفصل الرابع بيانًا لما نال هذا المعجم من النقد، فبيّن الباحث النقود المنهجية في مستوى جمع المادة اللغوية، ثم بيّن ما شاب الترتيب خارجيًّا أو داخليًّا من خلط أو اضطراب، ثم ما نال التعريف من تقليدية أو غموض أو سطحية أو تكرار، أو استطراد وفضول وحشو، وختم الباحث هذا الفصل بتأثير هذا المعجم في المعاجم التي تلته.
لم يكن الباحث وهو يعالج أمر هذا المعجم منكفئًا على المعجم وحده، بل هو معالج لمشكلة المعجمية نفسها، فالقارئ لهذا العمل يخرج بفيض من الدرس المعجمي التنظيري الموازي للدرس التطبيقي المتصل بهذا المعجم الذي هو علامة في التراث المعجمي العربي.
المعجمية اليوم قفزت في ظل الثورات التقنية قفزات تجاوزت الطرائق القديمة وأصبح الأمر بحاجة إلى مؤسسة ضخمة عملاقة تضم من الرجال المتقنين أعمالهم كالدكتور الفضيخ ليؤسسوا معجمًا عربيًّا تفاعليًّا على غرار المعاجم في اللغات الأوربية كاللغة الفرنسية، حيث يتكيف المعجم بضربة مفتاح ليلبي حاجة المتلقي وفاق عمره أو غرضه أو تخصصه، وهذا المعجم هو ما كان موضوع ورشة شهدتُها في مدينة الملك عبدالعزيز للتقنية عقدتها بالتعاون مع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ومنذ ذلك الوقت لا أعلم أمر ما سمي بالمعجم التفاعلي؛ ولكن من يزر موقعه على العنكبيّة ينقلب إليه البصر حسيرًا؛ إذ لا يراه سوى محرك بحث دون المستوى المأمول.
تحية من القلب للدكتور عبدالله بن عيسى الفضيّخ لإنجازه الرائع الرائد، والشكر لزميلنا الدكتور خالد بسندي الذي أشرف على الطالب وعمله فأحسن الإشراف، وفق الله الجميع لما فيه خدمة العربية وأهلها.