ليس السيوطي والمرادي متفردين بالإشارة إلى موقف أبي حيان من دلالة (إنما) على الحصر؛ بل أشار إلى ذلك عدد من العلماء(1)، منهم السبكي في (الإبهاج) الذي ذكر أن الذي نقله شيخه أبوحيان عن البصريين المذهب الثاني وكان مصممًا عليه ويتغالى في الردّ على من يقول بإفادتها الحصر الذي اختاره والده الذي كان «له كلام مبسوط في المسألة اشتد فيه نكيره على الشيخ أبي حيان وقال إنه استمر على لجاج وأن اللبيب لا يقدر أن يدفع عن نفسه فهم أن إنما للحصر ومن أحسن ما وقع له في الاستدلال على أنها للحصر قوله تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} فقال هذه الآية تفيد أن (إنما) للحصر؛ فإنها لو لم تكن للحصر لكانت بمنزلة قولك وإن تولوا فعليك البلاغ وهو عليه البلاغ تولوا أو لم يتولوا أو إنما الذي رتب على توليهم نفي غير البلاغ ليكون تسلية له ويعلم أن توليهم لا يضر»(2).
وكان أبو حيان يحتج بـ»أن الحصر لا يفهم من أخواتها التي كفت بما، فلا فرق بين: لعل زيدًا قائم، ولعلّما زيد قائم، فكذلك: إن زيدًا قائم، وإنما زيد قائم»(3)، ولا حجة له في ذلك لأنّ القضية متعلقة بالمعنى لا التصرف الإعرابي؛ إذ الأخوة بين إنّ وأخواتها أخوة عمل إعرابي وأما الدلالة فكل أخت لها دلالة مختلفة، وأمر آخر هو أنّ التوكيد هو معنى (إنّ) والحصر مجانس له فهو توكيد على توكيد.
ووافق ابن عطية في كلامه عند قوله تعالى {إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ}[النساء-171] حيث قال ابن عطية: «(إنما) في هذه الآية حاصرة، اقتضى ذلك العقل في المعنى المتكلم فيه، وليست صيغة (إنما) تقتضي الحصر، ولكنها تصلح للحصر والمبالغة في الصفة، وإن لم يكن حصر نحو: إنما الشجاع عنترة»(4)، وليس كلام ابن عطية مسلّمًا؛ لأنّ غير المؤمن لا يهديه عقله إلى حصر الوحدانية في الله؛ ولذا لزم التقرير، وكذلك المثال المضروب هو حصر للشجاعة في عنترة ولكنه على سبيل المبالغة، وعلق أبو حيان فقال «وكلام ابن عطية فيها هنا أنها لا تقتضي بوضعها الحصر صحيح، وإن كان خلاف ما في أذهان كثير من الناس»(5). وأبو حيان يشهد بتعليقه على مذهب أكثر الناس، وهو خلاف قول الدكتور عادل حسني أن من يثبت الحصر لـ(إنما) قلّة.
وينكر على الزمخشري قوله بدلالتها على الحصر في قوله تعالى (إنما يوحى إلي) قال «ولو كانت إنما دالة على الحصر لزم أن يقال إنه لم يوح إليه شيء إلاّ التوحيد؛ وذلك لا يصح الحصر فيه إذ قد أوحى له أشياء غير التوحيد»(6)، وليس يقتضي الحصر نفي غير التوحيد بل بيان أهميته حتى كأنه المتفرد بالوحي على نحو من المبالغة والمجاز. وهذا من أغراض الحصر المختلفة. ومثل هذا يقال جوابًا لنفيه الحصر في قوله تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}[فاطر-28]، قال:»ومن ادعى أن إنما للحصر قال: المعنى ما يخشى الله إلا العلماء، فغيرهم لا يخشاه، وهو قول الزمخشري. وقال ابن عطية: وإنما في هذه الآية تخصيص العلماء لا الحصر، وهي لفظة تصلح للحصر وتأتي أيضًا دونه، وإنما ذلك بحسب المعنى الذي جاءت فيه»(7). ومعلوم عقلًا أنّ العلماء وغيرهم يخشون الله؛ ولكن السياق سياق مبالغة كأنّ الخشية قرينة العلم والعصيان قرين الجهل وطالما وصف العصاة بالجهل، كقوله تعالى {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ }[يوسف-33]. وكنت تتبعت كثيرًا من استعمال أبي حيان لـ(إنما) فوجدته يستعملها للحصر، من ذلك قوله «لأن الكبرياء إنما هي لله تعالى، فمحال أن يتصف بها غيره حقيقة»(8). إذ يمكن صياغة عبارته هكذا: لأن الكبرياء ما هي إلا لله تعالى؛ فمحال أن يتصف بها غيره حقيقة.
** ** **
(1) انظر: صبّاح عبيد دراز، أساليب القصر في القرآن الكريم وأسرارها البلاغية (ط1، مطبعة الأمانة/ القاهرة، 1986م)ص 211.
(2) السبكي، الإبهاج في شرح المنهاج للسبكي(دار الكتب العلمية/ بيروت، 1995م) 1: 358 .
(3) أبو حيان، تفسير البحر المحيط، 1: 43.
(4) أبو حيان تفسير البحر المحيط، 1: 325.
(5) أبوحيان، تفسير البحر المحيط، 3: 325.
(6) أبوحيان، تفسير البحر المحيط، 6: 251.
(7) أبوحيان، تفسير البحر المحيط، 7: 295.
(8) أبوحيان، تفسير البحر المحيط، 1: 275.