قال الدكتور عادل حسني في بحثه (دائرة المعاني في إنما بين الكسب والإهدار): «وأنا لا أنفي أنك واجد من العلماء، من يقول بإفادة إنما لمعنى الحصر، إلا أنهم لا يبلغون مبلغًا، يمكن تسميتهم بالجمهور. وهذا يتلاءم مع ما قاله أبو حيان: (وفي ألفاظ المتأخرين من النحويين أنها للحصر). تأمل كلمة المتأخرين. ويقول أبوحيان أيضًا: (ولما كان في كلامهم كلما وهو يقتضي الحصر عند بعضهم). ويقول الزركشي: (وهي [يعني إنما] للحصر عند جماعة). فهم إذًا: (جماعة، وبعض، وناس).فكيف يمكن تسميتهم بالجمهور؟ وأين حكم السيوطي من هذا الكلام!»(ص10). وأود أن أذكر بأن قول السيوطي إن الجمهور يذهب إلى أن (إنما) للحصر لا يعني الاقتصار على هذا المعنى بل كونه معناها الأصلي، وأما ألفاظ (جماعة، وبعض، وناس) فمحايدة في دلالتها على القلة والكثرة، وليس يسلم لأحد بذلك إلا بإحصاء، والدكتور لم يذكر أحدًا يقول إنّ (إنما) ليست للحصر، وأما أبوحيان فذكر السيوطي أنه لا يقول بحصريتها متابعًا في هذا القول غيره كالمرادي (الجنى الداني، 394-395)، وانطلاقًا من تصريحه بذلك، قال أبو حيان «و(ما) في (إنما) وأخواتها، لم تغير شيئًا من مدلولها الذي كان قبل لحوق (ما) خلافًا لمن ادّعى أنّها أفادت الحصر فيما دخلت عليه إنما»(ارتشاف الضرب، ص1285). ولكني وجدته كرر موقفه في ستة مواضع من تفسيره (البحر المحيط)، وهو يحتج بقوله «والذي نذهب إليه أنها لا تدل على الحصر بالوضع، كما أن الحصر لا يفهم من أخواتها التي كفت بما»، والحق أنّه لا يلزم لأخوات إنّ ما يلزم لها، وليست الأخوة في العمل بملزمة بغيره؛ إذ دلالة كل أداة مختلفة عن الأخرى، والحصر أمر دلاليّ، وقد ذكر الدكتور أنّ أبا حيّان يدفع معنى (إنّما) في الوضع وهو ما تبين من النص الذي سبق، والحق أن ليس ثمة ما يدل من الأدوات بالوضع؛ إذ دلالة الأدوات منتزعة من استعمالها في السياق، ولولا ذلك ما عرف لها دلالة، وليست دلالة الأداة سوى وظيفتها في الجملة، وهي وظيفة إن اطردت وتكررت عدت الدلالة الأساسية، وما يطرأ من دلالات أخرى هو خروج عن تلك الوظيفة. ونقل قوله «وجاء لفظ (إنما) مشعرًا بالحصر، كأنه قال: ليس ذلك إلا تسكيرًا للأبصار»، وقد أورده الدكتور(ص14) ليدفع عن أبي حيان ما قاله السيوطي، وواضح من النص أنّه لا يراها للحصر، بل لفظها هو المشعر بالحصر، وهذا يناقض مذهبه إلى أن السياق هو الذي يدل، فهو يقول «وإذا فهم حصر،فإنما يفهم من سياق الكلام لا أن إنما دلت عليه»، وقد أورد عضيمة مواضع في البحر صرح فيها أبوحيان بدلالة (إنما) على الحصر(دراسات لأسلوب القرآن الكريم، 1: 589)، ومهما قلبت الأمر لا تجد المرادي والسيوطي أخطأهما الصواب في حكمهما.
ومضى الدكتور عادل في رده قول السيوطي فقال (ص10):»بل قد يبدو أمر (إنما)، عند بعضهم على خلاف ما صوره السيوطي تمامًا، فابن حجر يروي عن شيخ الإسلام البلقيني أن (إنما) تفيد الحصر، وروى ذلك (عن جميع أهل الأصول من المذاهب الأربعة، إلا اليسير كالآمدي، وعلى العكس من ذلك أهل العربية)(1). ظاهر في الجملة الأخيرة هذه، أن جميع أهل العربية، إلا اليسير منهم، يرون أن (إنّما) ليست للحصر. وهنا نضع كلام ابن حجر ورأي شيخه البلقيني، بإزاء مقولة السيوطي. ولا أعلم كيف فهم الدكتور من النص السابق ما قرره، فلا نعلم يقينًا مراده بالعكس أهو عكس لمذهب الآمدي أم هو عكس لمذهب أهل الأصول، ويحتاج الأمر إلى بيان من صرح من أهل العربية بأن (إنما) لا تدل على الحصر، والدكتور عادل يريد الاستفادة من قول ابن حجر ولكنه اقتطع منه ما يغير قليلاً من فهمنا لموقفه، وهذا بقية النص، قال: «واحتج بعضهم بأنها لو كانت للحصر لما حسن (إنما قام زيد) في جواب (هل قام عمرو؟)، أجيب بأنه يصح أنه يقع في مثل هذا الجواب (ما قام إلا زيد) وهي للحصر اتفاقًا. وقيل: لو كانت للحصر لاستوى (إنما قام زيد) مع (ما قام إلا زيد)، ولا تردد في أن الثاني أقوى من الأول، وأجيب بأنه لا يلزم من هذه القوة نفي الحصر، فقد يكون أحد اللفظين أقوى من الآخر مع اشتراكهما في أصل الوضع، كسوف والسين. وقد وقع استعمال إنما موضع استعمال النفي والاستثناء كقوله تعالى: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وكقوله: {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وقوله: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ}.ومن شواهده قول الأعشى:
ولست بالأكثر منهم حصى *** وإنما العزة للكاثر»(فتح الباري، 1: 12)
وما يمكن أن أنتهي إليه هو مخالفة الدكتور عادل في قوله (ص10) «وبهذا، وبعد اختبار كلام عدد من أعلام العلماء، يمكننا القول إنه لا يتوافر فيه ما يعين على ما استنبطه السيوطي». ولعل من المناسب أن نذكر هنا بعض من ذهب إلى أن (إنما) دالة على الحصر أو القصر، فمنهم الفراء، ذكره ابن فارس (الصاحبي، ص94)، وابن فارس(الصاحبي، ص94)، الزجاج (معاني القرآن وإعرابه 1: 243)، وأبوعلي الفارسي(الشيرازيات،1: 253)، والربعي ذكره المراديّ(الجنى الداني، 397)، والزمخشري في الكشاف، وابن الشجري (الأمالي 2: 564)، وابن عطية (المحرر الوجيز، 1: 237/ 543، 2: 140/ 500، 3: 393، 4: 372/ 437، 5: 277)، والسهيلي (نتائج الفكر،317)، وابن يعيش (شرح المفصل، 8: 65) ، والرضي(شرح الكافية، 4: 58)، والمالقي (رصف المباني، ص 203)، والمرادي (الجنى الداني، 397، توضيح المقاصد، 1: 483)، والسمين الحلبي (الدر المصون، 1: 137، 2: 90، 3: 594، 7: 286)، وابن هشام (مغني اللبيب، 1: 342)، وابن قيم الجوزية (بدائع الفوائد، 225)، والزركشي (البرهان، 4: 231)، وابن عقيل(شرح ابن عقيل، 1: 235). فهذا العدد من العلماء ومن تتلمذ عليهم لا يمكن أن يوصف بأنهم يسير، والمشكلة في أصلها ظن الدكتور عادل أنّ النحويين لا يرون (إنما) إلا دالة على الحصر، وليس الأمر كذلك؛ بل هم يرون أنها في الأصل للحصر ثم إنّ هذا الحصر يكون له من السياق ما يجعله ذا دلالة مختلفة؛ ولكنها مستفادة من الحصر عند التأمل، وما ساقه عن عبدالقاهر الجرجاني النحوي أكبر دليل على أن النحويين يرون خروج الأدوات من بابها لدلالات سياقية.