لقد تحدثنا في المقالة السابقة عن حال الحب والمحبين، أما اليوم فإننا نتحدث عن الفراق بين المحبين، وذلك فيما قاله ابن داوود وابن حزم. ولأن كليهما كما سبق وأن تم ذكره، يحومان حول المعنى مع اختلاف في اللفظ وسبك العبارة، وحتى حيثية تناول الموضوع.
ولا بد أن كلاً منهما قد تأثر ببيئته وخلفيته العلمية وإن توافقا في مذهبهما الظاهري، المبني على الظاهر من القول والاستنتاج دون قياس.
وابن حزم يقول عن الفراق: «وما شيء من دواهي الدنيا يعدل الافتراق، ولو سالت الأرواح به فضلاً عن الدموع كان قليلاً.. فالفراق أخو الموت».
ويذكر في موضع آخر: «عندئذ يؤول العاشق إلى حد السقام والضنى والنحول، وربما أضجعه ذلك.
ويضيف «وربما تزايد الأمر، فكان سبباً للموت ومفارقة الدنيا».
وعن صفات المحب ودلائل الوقوع في الحب، يقول ابن داود: «وأنت ترى العاشق إذا سمع بذكر من يحب يهرب ويستحيل لونه، وإذا كان الأمر يجري على ما ذكر، فإن زوال المكروه عن هذه حالة لا سبيل إليه بتدبير الآدميين، ولا شفاء له إلا بلطف يقع له من رب العالمين.. فهذا هو الداء الذي يعجز عن معالجته الأطباء».
وفي ذلك: يقول ابن حزم: «ومنها بهت يقع، وروعة تبدو على المحب عند رؤية من يحب فجأة ومنها اضطراب يبدو على المحب عند رؤية من يشبه محبوبه، أو عند سماع اسمه فجأة». ويضيف: «ومن أعلامه أنك تجد المحب يستدعي عند سماع اسم من يحب، ويستلذ الكلام في أخباره، ولا دواء له بالوصل ولا بغيره، إذ قد استحكم الفساد في الدماغ، وتلفت المعرفة، وتغلبت الآفة». وهذا التفسير السيكو- فسيولوجي أخذه ابن حزم عن ابن داود الذي أخذه بدوره عن أطباء اليونان ثم أعطاه بعداً فلسفيا. مثال ذلك ما ذكره ابن داود في «باب العقل عن الهوى أسير والشوق عليهما أمير». إذ عرض لأقوال «جالينوس: عن النفس الكامنة في الدماغ والقلب والكبد، ويحدد قوى الدماغ في التخيل والفكر والذاكرة، ثم يربط بين هذه القوى الثلاث وبين العشق.
أما ابن حزم، فقد أخذ بهذه المقولة ووظفها في مواضع مختلفة لتفسير علامات ومظاهر وآثار الحب على العاشق، وفي كل الأحوال لم يفصل في هذا الصدد، بقدر ما أوجز حين أناط «بالنفس» مهمة الحب والعشق، معزولة عن بقية القوى الكامنة في الإنسان.
نلاحظ أيضاً اختصاص ابن داود بملكة النقد التي جعلته لا يسلم في كل الأحوال بصحة مقولات حكماء اليونان، بل كان ينتقدها أحياناً. مثال ذلك، انتقاد مقولة «جالينوس» عن أحوال العاشق متجاهلا المرحلة السابقة لحالة العشق، محكما الصلة بين المرحلتين فعنده أن العشق يبدأ «بالنظر أو السماع» ثم «الاستحسان» الذي يتطور إلى «المودة» عندئذ تظهر «الإرادة» فتحول المودة إلى «المحبة» فإذا وقعت المحبة تسبب عنها «طاعة المحب للمحبوب».
أما ابن حزم، فيختزل هذه المراحل، مكتفيا بأن المحبة تفضي إلى الطاعة، يقول: «عندئذ تصبح صحبة المحب استسلاما» ويدلل على ذلك بشعر نقتطف منه:
ليس التدلل في الهوى يستنكر
فالحب فيه يخضع المستكبر
بينما يستشهد ابن داود بشعر أحدهم، حيث قال:
لو كان حبك صادقاً لأطعته
إن المحب لمن أحب مطيع
ويعطي ابن داود المسألة تفسيراً علمياً فيقول: «إن الخلة بين الآدميين مأخوذة من تخلل المودة بين اللحم والعظم، واختلاطهما بالمخ والدم، لأن من حل من النفس هذا المحل لم يستبد عنه بأمر». ويمضي ابن داود إلى أبعد من هذا فيقول: «الخلة توجب الهوى، والهوى اسم لانحطاط المحب في محاب المحبوب، وفي التوصل إليه بغير تمالك ولا ترتيب»، ويضيف: «ثم تقوي الحال فيصير الهوى عشقاً، والعاشق يمنعه من سرعة الانحطاط في هوى معشوقه إشفاقه عليه وضنه به، حتى أن إبقاءه عليه ليدعوه إلى مخالفته وترك الإقبال عليه».
وينقل ابن حزم تلك الفكرة ويعالجها بابتسار، حيث يقول: «وربما اتبع المحب شهوته، وركب رأسه فبلغ شفاءه من محبوبه». وعن تمكن العشق من العاشق، يقول ابن داود: وإذا كانت كل خواطر العاشق فيما يتمناه واقعة ممن يهواه، فهذه في المشاكلة الطبيعية التي لا يفنيها الزمان، ولا تزول إلا بزوال الإنسان، وإذا صح هذا المذهب لم يعجب عن أن يميل الإنسان إلى الإنسان بخلة أو بخلتين، فإذا زالت العلة زال الهوى، فلا يزال المرابط متنقلا إلى أن يصادف من يجتمع فيه هواه، فحينئذ يرضاه، فلا ينعطف عنه إلى أحد سواه».
هكذا تحدث هذان العالمان عن الحب وعن الفراق وفي حديثهما عن الفراق نجد أنهما قد استندا إلى الفلسفة اليونانية، وهي التي بنيت عليها بعض الفلسفة الإسلامية الدخيلة. أما الإسلام فهو في ذاته منهج عظيم لا يحتاج إلى فلسفة، وإنما يحتاج إلى تطبيق حقيقي دون تأويلات تتبع الهوى، ومطايا تركب لبلوغ الغايات. فلو تمسك المسلمون بالإسلام لتلذذوا بالغرام ولصبروا صبر المحبين على آلام الفراق.