إن أراد المرء أن يعرف أن مايجري في بعض أجزاء العالم اليوم ليس سوى فوضى دون عنوان، فما عليه إلا أن يتنقل بين القنوات التي تملأ الفضاء الرحب ليرى القتل والدمار في كثير من أرجاء العالم الثالث، لاسيما منطقتنا العربية وجارتها الإفريقية. وإن أراد التحقق فما عليه إلا أن يسأل نفسه عن السبب أو الأسباب التي تدعو إلى ذلك، فإن كان منصفا ومتجردا من الأهواء والميول فربما يصل إلى الاستنتاج الذي يقول إنها فوضى بلا عنوان.
الحرب تستعر في سوريا بين النظام وجيشه من جهة، يقتل، ويدمر، ويشرد، ويهجر، ويسلب، وينهب، والفصائل المتناحرة تتقاتل فيما بينها لكسب المغانم من أرض ومال، وفي فعلها هذا تقتل الأبرياء والعزل من الرجال والنساء والأطفال دون تمييز، ولكنها ترفع كلمة واحدة، الله أكبر، وهي بهذا تساعد في مد أمد النظام.
البناء يستغرق سنين عديدة، أما الهدم فلا يأخذ سوى أسابيع قليلة، فماذا بعد هذا الدمار الهائل؟ وفوق هدم التراب هدم القلوب، فهناك نساء رملت،وأطفال يتمت، ورجال قتلت، وعوائل هجرت، فمن يصدق أن الشعب السوري سيصل به الحال إلى أن يكون عالة على جيرانه وغير جيرانه ولسبب لا يتفق مع المنطق، ألا وهو نظام يريد أن يبقى على كرسي الحكم أعواما قادمة، وكأن لم تكفه السالفة، ومعارضة متباينة، يشترك بعضها في شعار واحد لكنها تقاتل بعضها بعضا باسم شعارها، فياله من منظر مضحك مبكٍ.
في العراق أمر لا يخفى على ذي لب، ولايحتاج فهمه إلى مراس، وإذا ظل الأمر على هذا النهج، فالله أعلم بالعواقب، وهناك من يردد سائلا : هل خلت الأمة من العقلاء ؟ لكنه لم يدرك أنها لم تخل من ذلك، لكن الأمر لم يعد بيد العقلاء، بل أصبح في يد أصحاب الأهواء، وعندما يغلب الهوى العقل،يصبح القرار خاطئا والعاقبة وخيمة.
في دول عربية أخرى، تتأرجح الأمور وتتجه الجهود إلى البحث عن سبل الاستقرار بدل البناء والتشييد، وكل مايخافه المرء أن البناء و زيادة الدخل هي القاعدة الأولى للاستقرار، فلا استقرار دون نماء، ولا نماء دون استقرار، فأيهما يكون أولا ياترى؟ لكن الإنسان هنا يحتاج إلى استقرار مع بناء، فلا يمكن أن يكون بناء دون استقرار، فالاستقرار أولا ثم البناء، وليس الأمر سؤالا لم يحل عبر السنين المتعاقبة، وذلك الذي يقول أيهما أسبق البيضة ام الدجاجة، وفيما يبدو أن الدجاجة هنا هي التي تكون أولا لأنها تهيئ البيئة الحاضنة للبيضة حتى تفقس، لكن البيضة إذا كانت غير جيدة فإنها لن تفقس أبدا.
في إفريقيا الوسطى، حرب طائفية في الواقع، حتى وإن قال القائلون غير ذلك. أما في جنوب السودان فهي حرب بين قبيلتين، أو بين متنافسين فأيهما كانت، ستظل حربا شعواء يموت فيها خلق كثير، وتهدم دير وصوامع وتحرق المنازل والبيوت، ويدمر الحرث والزرع إن كان هناك حرث أو زرع، والأهم من ذلك يتوقف تدفق النفط، وهو مصدر الرزق الوحيد الذي لا يحتاج إلى عناء، وإلا فالأرض معطاء لو أراد ساكنوها أن يزرعوها أو يستخرجوا خيراتها.
محزن حقا أن يكون العالم الثالث على هذه الحال وهو الذي يملك الموارد الطبيعية الهائلة، والبشرية الكثيرة، لكن الكثرة البشرية وحدها لاتكفي إذا لم تصاحبها عقول تعي ثم تجتهد وتنتج. من الصعب أن تغير ثقافة الأقوام، لكن ذلك ليس مستحيلا، وإن أخذ وقتا طويلا، وربما يكمن السر في تغليب الهوى، فهل يستطيع إنسان العالم الثالث التخلص من هواه في الإدارة ويقتصرها على الهيام بمن يهوى؟ ليته يفعل ذلك.