السفراء، والسفارة بين الملوك والدول، قديمة قدم التاريخ، وستظل كذلك، وإن اختلف شكلها وهيكلها ونكهتها ودرجة هضمها، وأساليب اختيارها، وقدرات القائمين عليها، وتنوع المشارب، وتعدد المذاهب وتباين الأدوات، واختلاف الإسقاطات.
والأندلس في عصرها الزاهي لا سيما في العصر الأموي أنجبت سفراء أفذاذ، ساعدوا في تحسين التواصل مع الممالك الأخرى المجاورة وغير المجاورة، وكانوا على درجة كبيرة من حسن التصرف والحكمة والصبر واستخدام ما هو متاح لديهم من بلاغة وفكاهة ولين وشدة في المواضع التي تتطلب ذلك، وكانت حكمتهم تتجلى في سرعة البديهة، والتخلص من المآزق، أو استغلال جو المرح إن كان موجوداً لترقيق القلوب وإيصال الرسائل، من خلال الحاكم مباشرة، أو من خلال أقربائه أو أعوانه، ومستغلين ما يمنحهم المضيف من مساحة للقول، فإن كانت المساحة رحبة وبهيجة أسهب السفير دون ملل، وإن كانت ضيقة استقصر دون خلل.
ويحيى بن الحكم الملقب بالغزال، سفير وشاعر أدرك خمسة من خلفاء بني أمية في الأندلس، فقد ولد في عهد عبد الرحمن الداخل، وعاش في عصره، وعهد ابنه هشام، ومن ثم الحكم بن هشام الملقب بالربضي، ثم عاش مجده في عهد عبد الرحمن الأوسط، ومن بعد ابنه محمد بن عبد الرحمن، وتوفي بعد أن ناهز المائة من العمر، وكان في صباه وشبابه، وحتى في كهولته جميل الشكل، وسيما ظريفا، صريحاً في قوله، هجاءً لبني قومه، ولا يبالي أن يضع لسانه، فقد هجا أشهر النافذين لدى الأمير عبد الرحمن الأوسط وهو نصر ألخصي صاحب العلاقة الخاصة «بطروب» جارية الأمير عبد الرحمن الأوسط، والمحظية لديه، وكذا زرياب المغني المشهور، إضافة إلى قاضي قرطبة «يخامر» وكذلك أخوه «معاذ» .
لقد كان هذا السفير مرحبا به في الممالك لأنه يمثل دولة قد تزينت بلباس العلم، وتوشحت بوشاح الفهم، وكان هذا السفير نموذجا لسفراء عصره لقدراته الذاتية والعلمية المميزة، ومن طرائفه في أسفاره، ما أورده أبو الخطاب بن دحية في كتاب « المطرب» حيث ذكر أن الغزال أرسل إلى بلاد المجوس «الدنمارك» وقد قارب الخمسين، وقد خطه الشيب، وقد رافقه في تلك الرحلة يحيى بن جيب، وعندما هام بهم البحر قال الغزال»:
قال لي يحي وصَرنا
بين مَوج كالجبال
وتولَّتنا رياحٌ
من دَبور وشمال
شقت القلعين
وأنبتت عرى تلك الجبال
وتمطى ملك الموت
إلينا عن حيال
فرأينا الموت رأى
العين حالا بعد حال
لم يكن للقوم فينا
يارفيقي رأس مال
ولكنهم بعون الله وتوفيقه استطاعوا تجاوز تلك المحنة والوصول بأمان إلى بلاد المجوس «الدنمارك» ، فسألته زوجة الملك واسمها «تود» اختصره العرب من اسم «تيودور» يوماً عن سنة فقال مداعبا لها : عشرون سنة فقالت: وما هذا الشيب؟ فقال: وما تنكرين من هذا؟ ألم ترى قط مُهرا ينتج وهو أشهب فأعجبها قوله، فقال في ذلك قصيدة منها:
إني تعلقت مجوسية
تأبى لشمس الحسن أن تغربا
أقصى بلاد الله لي حيث
لايلقي إليه ذاهب مذهبا
يا «تود» يا ورد الشباب التي
تطلع من أزرارها الكوكبا
والقصيدة تطول، ولما أفهمها الترجمان معاني قصيدة هذا السفير الفذ، ضحكت وأمرته بالخضاب وجاءها في اليوم التالي وقد اختضب، فظهر أجمل ما يكون من الشباب، فاستحسنت هيئته فقال في ذلك شعراً منه:
بكرت تحسن لي سواد خضابي
فكأن ذاك أعادني لشبابي
ما الشيب والخضابُ لواصف
إلا كشمس جللت بضباب
تخفي قليلا ثم يقشعها الصبا
فيصير ما سترت به لذهاب
لا تنكري وضح المشيب فإنما
هو زهرة الإفهام والألباب
فلدّي ما تهوين من شأن الصبا
وطلاوة الأخلاق والآداب
وحكى ابن حيان في كتابه المقتبس، أن عبد الرحمن بن الحكم «الأوسط» وجه سفيره وشاعره الغزال إلى ملك الروم، فأعجبه حديثه، وخف على قلبه، وطلب منه أن ينادمه، فامتنع عن ذلك، واعتذر بتحريم الخمر.
وكان يوماً جالسا عنده، وإذا بزوجة الملك قد خرجت وعليها زينتها، وهي كالشمس الطالعة حسناً، فجعل الغزال لا يميل بطرفه عنها، وجعل الملك يحدثه وهو لاه عن حديثه، فأنكر ذلك عليه، وأمر الترجمان بسؤاله فقال الغزال له : عرفه أنه قد بهرني من حسن هذه الملكة ما قطعني عن حديثه، فإنني لم أر قط مثلها، وأخذ في وصفها والتعجب من جمالها، وعندما أفهمه الترجمان قول الغزال، تزايدت حظوته عنده، وسرت الملكة بقوله ثم سألته أسئلة ليس هذا مقام إيرادها.
لم ينقل الغزال معه ثقافة الامتعاض من وصف الزوجة، وإنما تعامل مع ثقافة البلاد المرسل إليها فسر الزوج وسرت الزوجة، وهكذا استطاع الوصول إلى قلب الملك والملكة بحنكته وحسن تعامله فأنهى مهمته على خير ما يرام.