سَئِمتُ تكاليف الحياة الجادة، ومَلَلْتُ مغَالبةَ الفكر العَصِيِّ، وكرهت النَبشَ في عفن الأوضاع الموغلة في التفاهة. واشمأزت نفسي من احتقار الإنسان لأخيه الإنسان. ومَنْ يَعِشْ أوضاع الأمة العربية يسأم تكاليفها.
وما من دابة تمشي على الأرض، ولاسمك يعوم في البحر، ولا طائر يخفق بجناحيه في السماء إلاَّ أممٌ أمثالنا، لها غرائزها، وشهواتها، وعوالمها الغريبة. وعُدْوانها محكوم بسُنَّة الدورة الغذائية، وفواسقها لا تزيد عن خَمْس.
- فأين هي بهذه المحدودية من الإنسان بهمجيته وعدوانيته وأثرته؟.
الإنسان وحده المهيمن على تلك الأمم المتماثلة. والله وحده فوق الخلق يُصَرِّف الأمور، ويُديل الأيام بين الناس.
ولأن الإنسان الهلوع المنوع تَحَمَّل الأمانة التي عُرِضَتْ على السماوات، والأرض، والجبال، فأبت حملها، وأشفقت مِنْها، وحملها الإنسان بكل تبعاتها، فإنه لم يَحْمِلها إلا لظلمه وجهله.
ذلك ما نشاهده، ونشهد به، من الإنسان عبر أطوار التاريخ، ومن الإنسان العربي المغرر به وعليه. وهو حين يوصف بالظلم والجهل، فإِنهُما يكونان سجية فيه، لا ينفك عنهما، إلا بِخُلُقٍ كَسْبِيٍّ، لا جِبِلِّيٍّ. ومتى لم يتمكن من التحول، فإن الظلم والجهل يستشريان فيه.
ومتابعة الأحداث العالمية تؤكد ظلم الإنسان لنفسه، ولغيره، وتؤكد جهله بمراد الخالق للمخلوق. فالقتل الهمجي، والفوضى المستشرية، والتدمير المتَعَمَّدِ للقيم والمثمنات، لا يمكن قيامها، إلا بفعل ظَلَمَةٍ جَهَلَةٍ، لا يراعون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة.
ولما كانت الخيرية والعدل في الإنسان من السجايا الكسبية، فإنها بحاجة إلى ظروف مناسبة، للكينونة السوية، والاستقرار، والاستمرار.
وثقافة العنف والكراهية بوصفها جِبلَّة، تكون سريعة الانتشار، بطيئة الانحسار، ولأنها تتشكل من طبيعة إنسانية جِبِليَّة، فإنها لا تحتاج إلى من ينشئها. وما على المتردد إلا أن يلقي السمع، وهو شَهيد، ويجيل النظر في المشهد العربي، لتنثال عليه الشواهد والبراهين.
على أن الهمجية والوحشية لم تكونا آنية عند الإنسان، بل هي ممتدة معه منذ قصة [هابيل] و[قابيل]. ولكن إمكانيات التوصيل المتواضعة من قبل تحول دون التمكن من متابعة أدق التفاصيل للممارسات الوحشية، التي لا ينفك منها الإنسان.
أما اليوم فالأمر مختلف جداً، إذ بإمكان المهتم أن يَطَّلِع على أدق التفاصيل عن أي حدث، وأن يشاهده بالصوت والصورة في أبشع لحظاته. هذه الإمكانيات المذهلة فوتت على الإنسان المتوحش ما كان قادراً على ستره ومخادعة بني جنسه.
ويكفي لإثبات بهيمية الإنسان تَقَصِّي صِفَاتِه في الذكر الحكيم.
وللبرهنة عن صدق الوصف، ودقته، فإن على المتردد أن ينظر من حوله، ليشهد دركات المقترفات. وصفات الإنسان في القرآن خير شاهد على أصالة التوحش والعنف في أعماقه، ولا تناقض بين هذا ومولود الفطرة، كما في الأثر.
وللمفكر العربي [عباس محمود العقاد] كتاب يكشف عن طبيعة الإنسان، التمس مادته من آي الذكر الحكيم، وسمَّاه [الإنسان في القرآن]، وإن كان موقفه مَوْقِفاً دفاعياً عن الإنسان، وتجليةً للخلافة السوية، ورداً على [الداروينية] و[الفاشية].
ولما كان الإنسان هو المخلوق الوحيد المسؤول عما يأتي، ويذر، أصبحت تتنازعه سمتان:
- [أحسن التقويم]، و[أسفل السافلين]. ولأنه قادر إرادياً على تحديد السمة، فإنه مطالب بالصَّيْرورة إلى الأفضل. والخطورة تكمن في أن الاستقامة كسبية، والانحراف جِبِليِّ.
والإنسان إذ يكون روحاً وجسداً، تكون الخَلِيقَةُ النبيلة فيه غيبية، فيما تكون الصفة الشهوانية والغرائزية من عالم الشهادة. وبين الغيب والشهادة تكمن الإشكالية. فعالم الغيب يتطلب الاستكناه الذهني، والإيمان الطوعي، وعالم الشهادة مطروح في الطريق، يكون إلى الإنسان، وقد لا يكون الإنسان إليه، وهو عالم لا يتخطى بالإنسان إلى العالم المثالي، بل يَرْتَهنه في حيوانيته.
ثم إن النفس والروح والعقل مفاهيم غير مشاهدة، ولا ملموسة، بينما الشهوات والأهواء والغرائز ماثلة للعيان، لتجسدها في الممارسة.
لقد ناقش [العقاد] المواءمة بين الحرية والطاعة، وكيف يمكن الجمع بينهما، والطاعة عكس الحرية خنوع واستسلام. من هنا جنح الإنسان بطبيعته إلى الحرية غير السوية، وبدت صفاته الشريرة كما جَسَّدها القرآن الكريم.
و[العقاد] في كتابه آنف الذكر يدافع عن الإنسان، ويحاول انتشاله من وهدة الرذيلة، التي تداولها العلماء والفلاسفة.
وقد أشار إلى نظرية [النشوء والارتقاء] وحَسَمَها بأن الإنسان سلالة ذَكَرٍ وأنثى، مؤكداً أن قَدَمي الإنِسان الثابتتين هما: العقل، والإيمان. العقل بما عُلم بالحواس، والإيمان بما خفِي على الحواس. والمسمى بعالم الغيب، ولو قُوِّمَ المتوحشون، لثبت افتقارهم إلى العقل المدبر، والإيمان المقوم.
هذا الإنسان المتوحش حِينا، والوديع حيناً آخر، له تجليات متعددة ومتنوعة، وهو أميل للوحشية، والعنف، وقهر المستضعفين، واستلاب حريتهم، وحقهم، في العيش الكريم. وهو أفقر إلى الدين الصحيح منه إلى الطعام والشراب.
لقد شُرِعَت السلطات التي تحكم الجماعة، وتحول دون التسلط، وقَل أن تَخْلُص السلطات من الطبيعة الإنسانية، متى لم يُحْكَمْ رؤساؤها بالدساتير وعامتها بالقوانين.
والله جل وعلا حين سَلَّم الإنسان زمام الأرض ومن فيها، بإعلان استخلافه، لم يُرِدْ منه أن يُفْسد فيها، ويسفك الدماء، غير أنه يفسد عن قصد، ويسفك عن قناعة. إذ هو لا يدافع بحروبه، ولكنه يندفع، وهذه الخليقة تخالف متطلبات التكليف.
والأسوأ من ذلك كله أن الإنسان المتوحش، يمارس وحشيته باسم الدين، بل يتقرب إلى الله بإراقة الدماء البريئة المعصومة، وليس في مخيلته إلا الحور العين. واليقين أنه بهذه الخليقة، لن يُوَاجَه إلا بمقامع من حديد.
وكيف يَتَوَقَّع الحورَ والقصورَ والأنهارَ، وهو بفعله الهمجي يَسْفك الدماء المعصومة، وينتهك الأعراض البريئة، وتتحقق من خلال تصرفاته مقولة المصطفى: {لا يعرف القاتل لماذا قَتَلَ، ولا المقتول لماذا قُتل} أو كما قال. في حين إن الدين آخى بين الناس، وسَوَّى بينهم، وخاطب الإنسان بمسميات شمولية كـ[الناس] و[بني آدم] و[البشر] و[الإنس] وخاطبهم بمسميات وصفية كـ[المؤمنين].
والموبقات الإنسانية، أنَّ أَعْنف المواجهات عبر العصور مواجهات الأديان والطوائف. وقراءة التاريخ السياسي للمسلمين يكشف عن ممارسات متوحشة، لا يقرها عقل، ولا يسوغها دين. ومشروعية الجهاد لا تلجأ إلى القتل، إلا في أضيق نطاق، وتحت ولاية مسؤولة.
والمسلمون المتمثلون للمقتضيات الإسلامية لا يَتَّسمون بالوحشية، ولا بالدموية. وإذ يكون من المستساغ مواجهة الكافر المحارب في الدين، فإنه من المحرم مواجهة المسلم المخالف، وفي الحديث (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)، والعلماء الربانيون لا يكفرون أيَّ طائفة تقر بالشهادتين، إذ بهما يستحق الإنسان العصمة، فإن بغى قوتل، حتى يفيء إلى أمر الله.
الإنسان الظلوم والجهول اليوم يقترف خطيئة إعادة التاريخ المأساوي، لا من خلال تجلياته المشرقة، وكيف تتأتى له مثل هذه التجليات، وسجله الدموي يطفح بأبشع المقترفات.
والحروب الطائفية ليست بأقل عنفاً من الحروب الأكثر بشاعة كـ[الحروب الصليبية] و[التتارية]. على أن التآمر الطائفي فيهما من الأخبار المستفيضة، فـ[ابن العلقمي] أغرى [التتار] ويسر أمورهم، كردة فعل للمجزرة بين السنة والشيعة في [بغداد]. و[الدولة الفاطمية] في مصر هي التي زينت للصليبيين غزو بيت المقدس، لتحول دون وصول [دولة الأيوبيين] السنية إليها. وتلك المؤامرة من مغريات [صلاح الدين الأيوبي] لتحرير القدس، وإقامة الحكم السني في مصر.
لقد استوعبت الدولة الإسلامية تلك الصراعات الطائفية في زمن قوتها، وهي اليوم غير قادرة على مثل ذلك، وواجب كل الطوائف أن تجنح للسلم، وأن تكتفي بطرح مشاريعها عن طريق التفاوض. وهي إن لم تفعل، فشلت، وأذهبت ريحها، وسامها كل مفلس.
في النهاية هذا هو الإنسان بصورته الأصلية، وتلك ممارساته المتَقَنِّعةِ بالدين، والدين منها براء.