الإنسان العربي مسلوب الإرادة, مشلول التفكير، مغمور بالإحباط, مليء بالفشل، وكل خيار عنده أسوأ من الآخر.
والمتَقَرِّي الوَجِلُ لأوضاع أمته المأزومة يقطع بأن ذَوِي الشأن ذاهلون عما يتململ من تحت أقدامهم، ومُزْوَرُّون عما يلوح من حولهم من
بوادر سوء, لو اندلقت أقتابها لأهلكت الثاغية, والراغية, والحرثَ, والنسل.
وكأنهم ببلاهتهم فقهاء [بيزنطة], الذين يدوكون ليلهم حول أسبقية البيضة أو الدجاجة، وحصون مدينتهم تُدَكُّ بالراجمات.
ومما أدرك الناس من كلام المجربين الأوائل:- أن فقيهًا أَعْمى تَقَرَّى بيده قذائف الأعداء المتساقطة من حوله، فقال:- [هذه زِبْدُ المعاصي], ومثلها جزاء من فَرَّطَ في جنب الله {وَمَا هِي مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}.
ولقد يسُوءُ العقلاءَ ما يرون، وما يسمعون, من تَبلدِ الأحاسيس، والتناجي الآثم، والمناكفات المذهبة للريح، والتنازع المحقق للفشل، في زمن يموج بالفتن.
وكأن القومَ عُنوا بقوله تعالى:- {وَكَم مِّن قَرْيَة أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أو هُمْ قَآئِلُونَ}.
لقد شارف السيل الزُّبَى، وبلغت الروحُ الحلقومَ، وكل شرذمة قليلة تظن أن من أولوياتها تصفية من يخالفها الرأي.
وكأني بالتأريخ يعيد نفسه للمرة الثالثة.
الأولى: حين قال علي -رضي الله عنه:- [أُكلت يوم أكل الثور الأبيض].
والثانية: حين ضاعت الأندلس.
وليس ببعيد أن يعود للمرة الثالثة حين يضيع العالم العربي, وتكون الطامة الكبرى.
ثم لا يكون إسلام, ولا عروبة.
ومن ذا الذي يأمن هذا المصير:- {أفَأمنواْ مَكْرَ اللّه فَلاَ يَأمن مَكْرَ اللّه إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}.
وكيف يتأتى النصر؟ وأفئدة الصَّفْوة غير صاحية, وغير مدركة لما يدور حولها، وشغلها الشاغل تضخيم الوقوعات العارضة، والنحيب على الخلافة الراشدة.
وكأنَّ [المَهْدِي المنتظر] القابع في السرداب يتحفز للخروج, وامتطاء صهوة جواده، لأطر الخلق على الحق.
ومن ذا الذي لا يشقى في ظل أوضاع مخيفة؟ والدنيا بواقعها الرَّدِيء تخيف المخيفين:- [ذُو العقل يَشْقَى في النَّعِيم بَعَقْله:....].
لقد تداعت الأمم على أمن البلاد, وسائر معصوماته, ومثمناته، كما الأيدي المتداعية على قصعتها.
وحين اسْتَخَفَّ الصَّحابة هذا التخويف تساءلوا باستغراب:- أمن قلِة نحن يومَئذٍ؟ وجاء الجواب المُرْعِبُ:-
لا. ولكنكم غُثاء كغثاء السيل.
ومن يتعقب أولويات النخب, بوصفها ردء الأمة, وحصنها، لا يقف على مشاريع فكرية مُؤَصَّلة, تنبعث من حاجة الأمة، وتلائم أوضاعها، وذلك مؤشر الغثائية.
ولظى الخوف الحقيقي والمشروع يكون من تململ الفتن، وإحاطتها، واستحكام حلقاتها.
هذا الاضطراب لا يثبته إلا إدارة حكيمة للأزمات الخانقة, الملتفة كحبل الفجيعة على الأعناق.
ورُؤْية مُسْتشرفة للمستقبل.
وتَصَرُّفٌ متعقل يستبطنُ التسامحَ, والتصالحَ, والتعاذرَ، وترك الفتن تَغُطُّ في نومها العميق.
لقد أغرقنا مشاهدنا بالهوامش والثانويات، وشغلتنا أحداث عربية، فرقت شملنا، وأوهت عزائمنا.
وشطت بنا قراءاتٌ غرائبية, ليست في عيرنا, ولا في نفيرنا.
وكأننا مَوَكَّلون بهموم الغير.
وكأننا فارغون من الهموم.
كما استهلكتنا ظَواهر اجتماعية محلية، لا تحتاجُ إلى تأصيل، ولا إلى تحرير، ولا تقع ضمن اختصاص المفكرين.
ثم هي وقوعاتٌ عارضة, لا تمس بنيتنا الفكرية، ولا مسيرتنا الحضارية، ولا مشاريعنا التنموية، وليس لها دور في تخلفٍ أو تقدم.
ولنضرب على ذلك مثلاً بـ [قيادة المرأة للسيارة].
من المقبول أن تعتورها أقلام البسطاء، دون أن تكون قضية ساخنة, يمتاز فيها المجرمون, ودون أن تكون مؤشر انغلاق, أو انفتاح، ولا سبيل تقدم, أو تأخر.
وأحسب أن مثل تلك الظواهر من اختصاص السلطة التنفيذية.
فإذا أثارها الكتبة, دون المساس بسمعة الخائضين, وجب تفويض الأمر إلى الجهات المعنية بمثل ذلك.
فإذا قضت أمراً لا تكون لأحد الخيرة من أمرهم.
فالسلطة إن لم تكن مطاعة فسدت الحياة.
وحتى لو جاء قرارها على خلاف مراد المطالب, لزمه السمع والطاعة.
لأن مذهب أهل السنة والجماعة السمع والطاعة, في اليسر والعسر، والمنشط والمكره، وحتى مع الأثرة.
ذلك مثل أضربه، ولست مَعْنِيَّا بما ترتب عليه من خلاف عريض، وما خلَّفه من عداوة, واحتقان, وتصنيف.
علماً بأنني مع المنع في ظل الظروف القائمة، ولن يزعجني أي قرار يُتخذ؛ فتلك مسؤولية ولي الأمر، وهو الأدرى بمصالح الأمة.
لقد فَعَلَتْ هذه الظاهرة فِعْلها في التصنيف، والاستعداء والتنابز، وكأن في القبول أو الرفض صلاح الأمة أو فسادها.
الشيء الذي يملأ أوعيتي، ويستولي على كل اهتمامي, تلك الفتن التي تجيش كالجبال من حولنا, وتتكسر أمواجها على سفوح حمانا, وكلما تكسرت موجة, وعلا أسوارنا رذاذُها، لحقت بها أخرى, أشد اضطراباً, وأعلى زبداً.
وفي كل يوم نفقد ثنية، ونزداد إشكالية.
ودون هذا ما نعيشه من ضيق عطن, وتفاقم احتقان, وسوء ظن, وعجز عن احتمال الاختلاف المعتبر.
وحين لا يكون بُدٌّ من الاختلاف فإن الوضع يتطلب البراعة في إدارته، ولملمة ذيوله, والتخفيف من غلوائة.
ومن الخطلِ وسوءِ التدبير التفكيرُ في حَسْمه.
ومن الضروري التعامل معه بالحلم والأناة.
وكم نحن بحاجة إلى فقه الواقع, والتمكين, والأولويات.
ومن فَقَد شيئاً من ذلك فَوَّتَ على أمته فُرَصاً نادرة.
لقد بلغت الأمة العربية الدرك الأسفل من الهوان، وذهاب الريح، والفشل الذريع في كل مناحي الحياة, ولن نكون في معزل عن دخن ذلك, شِئْنا أم أبينا.
لقد أنهك أمتنا الاستعمار, وأردتها الانقلابات العسكرية، وأصْمَتْها الثورات الشعبية، وصار بها إلى اليأس والقنوط انبعاث الطائفيات، والحزبيات, واستفحال الغلو والتطرف.
وكلما شارفت على النجاة ارتكست في أوحال فتن, لا ناقة لها بها ولا جمل.
فِتن فُرِضَتْ عليها، واقتيدت إليها مكرهة لا مختارة.
وكأن قدرها أن تظل مرتهنة لتناسل المشاكل.
يتبع..