أحْسِبُ أنني أَغْثَيْتُ المتلقي بتَرْديد القول حول البراعة في إدارة الاختلاف، وأسلوب التعامل مع المخالف. وكان حقاً عليَّ تَلَمُّسُ الطريق القاصد إلى الموضوعات الأبكار، وإن قيل في الجاهلية الأولى:-
[ما تُرانا نَقُولُ إلاً مُعاراً
أو مَعاداً من قولنا مَكْروُرا]
غَيْر أني حين لا أوَفَّق في إبلاغ الرسالة، وفي حَمْل المستهدف على ما أرى، ينتابني هاجِسُ التكرار، أملاً في أن تُلامِس نُذُرِي آذان المقصودين بالتحذير. حتى لكأني ذلك الخطيب الذي ظَلَّ يكرر خطبته في كل جمعة، ولمَّا سِيْء المستمعون بذلك، عاتبوه على فِعْله المشين، فقال لهم:- ما أقوله موعظة، لم أجد لها أيَّ أثر?.? ولم أشأ تجاوزها إلى أخرى، حتى تقلعوا عما نهيتكم عنه. فنظر بعضهم إلى بعض. هل يراكم من أحد؟ ثم انْصَرفوا يتلاومون، ويعتذرون. من هنا ساغ لمثلي التكرار.
ولما كانت الدُّول؟،؟ والأحزاب، والطوائف، وسائر الأناسي يَرْصُدون ما يقال بحقهم. ويُرَتِّبون الرَّدَّ على ما يَبْدر من كُتَّاب غيرهم، كان لزاما على أي كاتب ناصح لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم ألا يكون براقشيا، يوقظ الأصدقاء قبل الأعداء، للتربص، والكيد. ولاسيما أن سائر الأوضاع المحلية، والعربية، والإسلامية، والعالمية لا يُساعد شَيْءٌ منها
على تحقيق المراد.
رُبَّما يكون الكاتب الخلِيُّ مُحْتَقِناً من الأوضاع المتداعية بما يخيف، متعجلاً كشف الضُّرِّ، مُسْتاءً من بعض المخالفات التي يود أن يَحْبِسها في مكانها، ويحول دون تجذرها وانتشارها.
وما كنت أشك أن الجميع حريصون على الانتصار، واجتثاث المنغصات من قواعدها، ولكن بعض الكتبة يشبه [سعداً] في إيراده لإبِلِهِ:-.
و[المنفلوطي] يقول عن تأثير الأقلام وإثارتُها:-
[كم أثارَ اليراعُ خَطْباً كَمِيْناً
وأماتَ اليراعُ خَطْباً مُثاراً
قطراتٌ من بين شِقَّيْه سالت
فأسالت من الدما أنهاراً]
والعقلاء مَنْ يودون من حملة الأقلام إماتة الخطوب المثارة، ورأب التصدعات المقترفة، وحمل المرتابين على نقاء الضمائر، وصفاء النفوس.
والمستَخِفُّون بحصائد الألسن، كالمستخفين بالطَّلقات العشوائية. يقول الخَلِيُّ منهم الكلمةً، لا يلقي لها بالاً، تهوي بأمن أمته وسمعتها في قعر الفتن.
وإذ نجد شيئاً من العذر لمن يناكفون الأعداء بألد الخِصام، فإننا لا نجد أدنى مبررٍ لمن يَصْدَعُون بعداوة المُخْتَلَفِ معه، الذي يملك حق تقرير مصيره، واختيار م ايشاء من المسائل المختلف حولها. وذلك بعض الحقوق السِّيادية. إِذْ لكل دولة حساباتها، ومصالحها، وأولوياتها. ومن المسلمات تفاوت المواقف، وتعارض المصالح، واختلاف الحسابات.
وليس من الحصافة أن نناكف مَنْ خالفنا، ولم يَكدْ لنا، والمتعقب للتناجي يروعَه التصعيد، وتكثير سواد الخصوم، في زمن الانكسار.
ومن النكسات الموجعة في عالم الكُتَّاب، عدم التفريق بين المختلف معنا، والمعادي لنا. ومن ثم التعامل مع الفئتين بأسلوب واحد؟؛ وإذ يكون من حق المختلف غير المعادي التفسح له، ومداراته، وتجسير الفجوات معه، يكون من حق المعادي العدل معه، وتفادي تصعيد العداوة، والعمل على احتواء الموقف. فاستفحال العداوة، وتعدد الأعداء، يضاعف المسؤوليات، ويحول دون الفراغ للأجدى والأهدى، وليس من الحصافة تمني لقاء العدو، فالروابط متعددة، ومن أوسعها الرابطة الإنسانية. والمسلم مطالب بالجنوح للسلم، والدفع بالتي هي أحسن؟.
وكم قلت، وسأظل أكرر القول: إننا دولة محورية، وذات خصوصية مكانية، وأهمية عالمية. وهذه السمات تتطلب من كُتَّاب الرأي احتواء المخالف، وتحييد المعادي، وتفادي التلاحي، والمهاترات التي لا تليق بكتاب دولة المقدسات، والثروات، والأعماق المتعددة، والدعم السخي.
على أن القيم الإسلامية مَنَحَت أهل الذكر مساحات واسعة، وخيارات متعددة، وراعت خطاب القوة، وخطاب الضعف: [الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ]،[إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً]،
[وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ]،[وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا].
ولما كان الزمن كزمن [أبي الطيب] الذي أتاه على الهرم، فلم يسره:
[أتى الزمانَ بنوهُ في شبيبته
فَسَرَّهم وأتيناهُ على الهرمِ]
فإن لمثل هذا الزَّمَنِ الهَرِمِ خطابه التصالحي، التعاذري. ومن اختار أصعب الطرق في ظل ضعف الإمكانيات، عَرَّض أمته للنَّكسات، وهيأ الفرص الثمينة للأعداء.
والفقهاء المستشرفون للمستقبل، المتوقعون لأسوأ الاحتمالات، وضعوا حلولاً لفرضيات، لم يحن وقتها في زمنهم، لأنهم يعرفون فترات الجزر، والمد، والخوف من تحذير الله:- [وإِنْ مِنْ قَرْيَة إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْل يَوْم الْقِيَامَة أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا].
ومن ثم تحدثوا عن دفع الجزية من السلم لغيره. والرسول صلى الله عليه وسلم جَنَحَ إلى الصلح مع العدو الأقوى، وأعطى شيئاً من التنازلات التي لم ترق لبعض صحابته، الأمر الذي حملهم على ثنيه عما أراد. ولعلنا نذكر مواقف [عمر]، ومواقف بعض الأنصار في أمور التقارب والدفع.
ومن الكَتَبَةِ من يُنَكِّبُ عن ذكر العواقب جانباً، بحيث لا ينفك من صناعة الأعداء، ونسف جسور التواصل مع المخالف، وتحريض الأعداء الأقوياء، وتحفيز الضعفاء المخالفين، على توحيد صفوفهم، وتجميع شتيتهم، وإيقاظ الروح العدوانية في أعماقهم. ومن أطلق لسانه بالنيل من الآخر، دون تقدير لإمكانياته في حماية كلمته، فَتَّ في عضد أمته، وشتت جهودها، ومَكنَّ الأعداء من ثغورها المكشوفة. وإذا جارينا أعداءنا في أخلاقهم الدنيئة، كنا مثلهم على حد:-
[إِذا جَارَيْتَ فِي خُلُقٍ دَنيْءٍ
فَأَنْتَ وَمَنْ تُجَارِيهِ سَواءُ]
إننا حين نختلف مع المسالمين، يجب أن يكون خِطَابُنا للإقناع والاستمالة. أما حين نختلف مع المحاربين، فيجب أن ننظر إلى إمكانياتنا، وإلى مناسبة الوقت للتصدي والتحدي. فالعاقل من يختار الوقت المناسب لمعاركه، بحيث لا يتيح الفرصة للآخر، كي يفرض عليه وقت المعركة ومكانها. والذين تروعهم الأوضاع، ثم لا يتبصرون في الأمور يهتاجون، ويثورون، ويمكنون أعداءهم من توجيه الضربات الموجعة: حِسِّياً ومعنوياً.
إن بإمكاننا الدفاع عن مثمناتنا، ومكتسباتنا، دون اللجوء إلى النيل من الآخر. وقادة الفكر والرأي الأذكياء من يتيحون الفرصة للآخر، ليراجع نفسه. وخَيْرٌ من بعض الإجابات السكوت، على حد:-
[إذا نَطَقَ السَّفِيهُ فَلا تُجِبْه
فخيرٌ من إجابَتِه السُّكُوتُ]
ولاشك أن الذين يبادرون المخالف بالاستخفاف والعداوة؟،؟يصعدون المشاكل،. وإذا كانت مكاسب الإنسان، أو خسارته في الكلام، فإن عليه تقويم المواقف قبل التفوه بالكلام.
و[أبو تمام] الذي يستبعد رباطة الجأش عند المخالف، يقول متأوهاً:-
[مَنْ لِي بِإِنْسانٍ إذَا أَغْضَبتُهُ
وجَهِلْتُ كان الحلمُ ردَّ جوابه]
إن من الخير لأمتنا، واستقرارنا، ومثمناتنا أن نكون بارعين في صناعة الأصدقاء. ولن يتأتى ذلك إلا بكظم الغيظ، والعفو عن المخطئ بحقنا، فضلاً عن المختلف معنا، دون أن يتعمد الإساءة. وبلادنا التي تدرأ عن العباد والبلاد بالدرهم والدينار جديرة بأن يمتلك مفكروها الكلمة الطيبة، والحوار الموضوعي، ولاسيما أننا أصحاب [الحوار] و[التقارب].
إن هناك دُوَلاً، وأحزاباً، وطوائف، وأناسي نختلف معهم. ومن حقهم أن يستقلوا بآرائهم، وأن يختاروا الطريق المناسب لهم. ومتى مكَّنونا من اختيار المناسب لنا، وجب علينا أن نجنح إلى التعاذر والتعايش، ومراقبة الوضع، فإن تعرضت مصالحنا للخطر بسبب هذا الاختلاف. وجب أن نعالج الأمور بما يحقق الاحتواء، أو التحييد -على الأقل- مع ترك الأبواب مفتوحة للإنابة، تمشياً مع مقاصد الشريعة في الهون عند الحب، وعند البغض:- [أحبب حبيبك هوناً ما …].
ولن نقلل من أعدائنا بمبادرة الهجوم، والإمعان في الذم، وفتح الجبهات مع كل مختلف معنا. لقد سَئمَت الدول الواعية من الحروب الباردة، فضلاً عن الحروب المدمرة، وجنحت إلى الرفق، والوفاق. وما دخل الرفق في شيء إلا زانه. فلنعفُ، ولنصفحْ، لنكثر من الأصدقاء، ونقلل من الأعداء.
وما خُيِّر العقلاء بين كلمتين إلا اختاروا أطيبهما. [وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ].
هذه الآية نزلت في [أبي بكر] رضي الله عنه، حين أقسم ألا ينفق على [مِسْطَح] لأنه ممن أشاع الإفك على أم المؤمنين [عائشة] رضي الله عنها. فحين تُليَتْ عليه تلك الآية، أحَبَّ المغفرة، وتراجع، ورجع إلى الإنفاق. وما أحوجنا إلى هذه الخليقة في هذه الظروف الحالكة السواد.