ويمتد بنا الحديث الشَّيِّقُ عن مصر، وما لقيناه في أسفارنا اليها من نصب محبب إلى النفس، لارتباطه بالقراءة والمتعة البريئة. ولقد حفظنا عن أشياخنا فوائد الأسفار حين قال قائلهم:
[سافر ففي الأسفار خمس فوائد...]
وإن لم يتحقق منها إلا اليسير. ومصر بالذات جامعة غير مانعة، ولهذا سميت بـ[أم الدنيا], فيها انفلات وفوضى ولكنها مقبولة، ولربما تكون البلد الوحيد الذي يفيدك فيها درهمك ودينارك، وتحل بهما كل شؤونك.
تَخْرُج من مصر وقد مللت من كل شيء, ثم لا تلبث أن تحن إلى كل شيء فيها، بحيث تجمع أمرك لتتعجل العودة إليها.
في أول رحلة قمت بها إلى مصر, فُقِدَ مني [جواز سفري]، إذ كنا يومها مضطرين إلى مراجعة السفارة, لتسجيل وثائقنا. وقد تطوع أحد الإخوة الذين سبقونا إليها مرات عدة بِأَخْذِ جوازي لتسجيله في السفارة، ولكنه في نهاية الدوام عاد بدونه, مُدَّعياً أنه فُقِدَ على طاولة الموظف المختص. فكنت حينها كمن كان في قارب ضاع فيه المجداف والملاح, وانتابته الأعاصير من كل جانب. ومر ذلك اليوم كأثقل ما تكون الأيام وأصعبها. وأقبل الزملاء يواسون, ويأسون ويتوجعون، ولكنهم لا يقدرون مجتمعين على تحمل الرفد، فالأحوال دون الكفاف. كنت شاباً في مقتبل العمر, وكانت [الشيكات السياحية] لا تصرف إلا بـ[جواز السفر], وما كان بد من احتمال الأذى, ورؤية جانية, والتحامل على النفس, والتفكير الجاد بالحل الناجز.
لم تكن الأنظمة في أمر الفَقْد على ما هي عليه الآن، وكنت إذ ذاك صحفياً, أحمل بطاقة محرر صحفي في جريدة [الجزيرة] وكنت أباهي بتلك البطاقة, وأبرزها في كل موقف, فصاحبها مهيب الجانب, تُخشى سلاطة لسانه وشباة قلمه: [وعداوة الصحفي بئس المقتنى] مع الاعتذار لسلطان الشعر الذاهب.
وعند الصباح لم يكن هناك حمدٌ للسرى، كانت ليلة ليلاء، ندير فيها معاً أساليب الحلول.
- ماذا نفعل؟.
- ومن أين نبدأ؟ .
تحاملت على نفسي كالثَّمِل, وذهبت أقتاد الزميل الذي أضاعني [وأي فتى أضاع]، وفي السفارة قَدَّمت نفسي للمسؤول عن الرعايا السعوديين، من خلال بطاقتي الصحفية. فقام القوم ولم يقعدوا, والتف حولي عِلْية العاملين، يواسون، ويُهوِّنون الأمر، ويستبقون للخدمة، ويقدمون كروتهم. لقد رسموا لي الطريق القاصد, ولم يمض يومٌ وليلة، إلا والجواز البديل بيدي، أذرع فيه أرض مصر طولاً وعرضاً.
وبعد عقود من هذه الضائقة اجتالت عالمنا ظاهرةُ الإرهاب, وسيئت سمعةُ الإنسان العربي, والمواطن السعودي على وجه الخصوص, وحَرِصَت الدولة على قطع دابر الهُمَزَةِ واللُّمزَة، ومحاصرة الظاهرة.
وحين أصبحت المملكة مستهدفة في كيانها وإنسانها, وأصبح الإعلام الفضائحي ينال من سمعتها، وأصبح بعض الإرهابيين يحمل وثائق سعودية مزورة, شددت أجهزة الأمن العقوبات على المتساهلين بوثائقهم. وما من أحد ناله من لهب الإرهاب مثلما نال بلادنا وإنسانها، حتى لقد أصبحت صورة الإنسان السعودي مكروهة ظلماً وعدواناً, مع أنه طيب متسامح، كريم مسالم، لا يعنيه إلا شأنه, ومن شذ شذت به خطيئته. ولسنا بدعاً من الأمم، فكل جنس له شواذه التي لا تكسر القاعدة.
والمؤسف أن الإعلام المناوئ استغل هذه الظاهرة ليفت في عضد الدولة ويحول بينها وبين منجزاتها الإنسانية. والمنافسون للدولة تَحوَّل بعضهم من منافسين شرفاء، إلى حسدة أشقياء. من هنا لم يعد من السهل استبدال وثيقة بأخرى ضائعة إلا بعد محاسبة عسيرة، وعقاب غليظ.
في مصر طِيْبةٌ و براءةٌ وحسنُ ظن، وفيها ما فيها من السلبيات، ولكنها سلبيات مقدور على احتوائها.
وأجمل ما فيها أنه لا يعوزك الوصول إلى مسكنك في أسرع وقت, وأقل جهد. ولما كانت [القاهرة] وحدها يزيد عدد سكانها على سكان دول الخليج مجتمعة, فإن عناوين المحلات والمساكن من الدقة, بحيث لا يحتاج السائح إلى عناء ليصل إلى ما يريد, فيما يظل الحي الذي أسكنه في [بريدة] يحمل ثلاثة أسماء مستعملة في الوثائق الرسمية؛ فالكهرباء والماء تسميه [حي الراشد] والأمانة تسميه [الحي الأخضر] وكتابة العدل تسميه [حي الأفق]، وقس على ذلك بقية الأحياء, وبقية المدن.
سبقني زملائي إلى [القاهرة], وكان تأخري بسبب وفاة والدي -رحمه الله-، وطلبت منهم الإبراق لي بعنوان السكن, إذ لم يكن الاتصال الهاتفي ميسوراً، وبعد يومين وصلتني برقية, هذا نصها [الدقي _27_ رفاعة]. ووصلت القاهرة في الهزيع الأخير من الليل، وركبت سيارة الأجرة، وناولت سائقها البرقية، فانطلق, وهو يردد:
- توكلنا على الله.
ولما كان السواح الخليجيون يسكنون الشقق المفروشة داخل القاهرة، والسكن الذي استأجره زملائي الستة يعد من القصور الفارهة، فقد وقف متردداً, ومضى مرة ثانية إلى الميدان, وانطلق إلى [شارع رفاعة]، ومضى حتى وصل إلى ذات القصر, والتفت إلي ليقول: - هذا القصر يحمل [رقم 27], وهذا [شارع رفاعة].
في هذه الأثناء لمحت أحد الزملاء بلباسه السعودي. قلت له: - بارك الله فيك. هذا هو العنوان.
يتكون هذا القصر من ثلاثة أدوار [بدروم] للخدم, والدور الأرضي للاستقبال، والثاني للنوم. وتزين جدرانه لوحات زيتية, وأخرى منحوتة غاية في الروعة، ذكرتني بـ[إيوان كسرى] الذي وصفه [البحتري] وكانت صوره من الدقة والروعة بحيث أحس [البحتري] أنها حقيقية لا صورة, ومن ثم راح يصف مشاعره بقوله:
[ يَغْتَلِي فِيْهمُ ارتِيابِي حَتَّى
تَتَقَرَّاهُم يَداي بِالمْسِ ]
كانت صوراً مثيرة للفضول تنكرها ثقافتنا، ولكننا قبلنا بقاءها على اختلاف في مواقفنا، وكلما نظرت إليها, راعتني الدقة، واغتلى ارتيابي في حقيقتها.
وممن زارنا في ذلك القصر المنيف الشيخ [صالح المنصور] رحمه الله، الذي كان ينوي الزواج من مصر, وقضاء شهر العسل في قصر كهذا, ولكنه اشترط نزع الصور، وتوسطنا بالاكتفاء بتغطيتها، فأبى, وأبوا, ومضى كل إلى غايته، الملفت للنظر أن القصر تملكه وتسكنه أسرة قبطية.
أمضينا في هذا القصر سحابة صيفنا كله, وشهدنا تصوير لقطة سينمائية فيه, سبق أخذ أولها. وحين جاء المخرج يستأذننا لاستكمال لقطة أخرى مكملة, لا تزيد على خمس دقائق, أذنَّا له، وما كنا ندري أنها تحتاج إلى يوم كامل, يسعى لتجهيزها عشرات العاملين. لقد رأيت الممثلة [نجوى إبراهيم] ومن حولها عشرات الفنانين, الذين يصلحون شعرها, وبشرتها, وملابسها, ويلقنونها, ويرسمون لها الحركة, والمشاعر, وردود الأفعال. ولقد تم تصوير اللقطة أكثر من خمس مرات, في كل مرة يَعْترض المخرج على شيء من الحركات, أو النظرات. ويومها رحمت الممثلين، وكرهت التمثيل، وأدركت زيفه, وكنا من قبل نظن أن الحب فيه صادق، وأن الجمال حقيقة, وأن الممثلين يعيشون جنتهم، ويُذْهِبون طيباتهم في تمثيلهم. لقد أقبل الممثل إلى الممثلة قبل التصوير, ومشاعر كل واحد منهم كالصخرة الصماء، والكره باد على مشاعرهم. وحين بدأ العد التنازلي للتصوير, انداحت الابتسامات, وتهللت المشاعر, وطفحت كلمات الغزل، وانثالت مشاعر الحب, حتى إذا فُزِّع عن قلوب الممثلين, اكفهرت المشاعر, وازورت الوجوه، وظهر القبيح المستور.
كان السائحون في مطلع السبعينيات تشدهم المسارح, ودور السينما والأهرامات، وشارع الهرم. أما اليوم فلم يعد لشيء من هذا أو ذاك أثر يذكر. وتلك الأيام يداولها بارئ الكون بين الناس. ومن أمن تقلبات الحياة, بغتته بأخذها.
لقد تغيرت أنماط الحياة وأساليبها, وهي في دول الخليج أكثر تغيراً إذ تمثل قفزات متلاحقة، يمسي الخليجيُّ على حال ويصبح على حال أخرى.
في الريف المصري يبدو لك المعدن النقي لإنسان مصر, فيه الجد والدأب, وبساطة الحياة, ولقد كانت لنا أيام في عمق الريف, نشاهد الحياة البدائية التي قَصَّر عن تصويرها السرديون, أمثال [نجيب محفوظ], و[يوسف السباعي] وأضرابهم, حيث توغلوا في تجسيد سفه المدينة, وخلاعتها. وانتزع [نجيب محفوظ]عالميته الزائفة من قعر الواقع في المجتمع القاهري، ولم يتجه صوب الريف المصري إلا قليلاً.
ومثلما يعتمد الخليجيون على النفط، يعتمد الريف المصري على ماء النيل. ولكن الخليجي مستهلك لنفطه, فيما يستثمر المصري ماءه.
وكان حقاً على الخليجي تقليل اعتماده على النفط، وحقاً على المصري تطوير آليته الزراعية، لتستوعب التقنية ما تواجهه مصر والدول الخليجية من الانفجار السكاني المخيف.
في الريف المصري يشعر الإنسان العربي بالأمن الغذائي, فالريفي يعمل طول يومه, وشطراً من ليله, كي يتوفر على الكفاف، فالأرض خصبة معطاء، والفلاح يستغلها، ويستغل جهد حيوانها وناتجه. وجُلُّ الشباب العاطلين في القاهرة يعتمدون على جهد آبائهم وأمهاتهم في الريف. ولو رحت أفصل القول عن دقة الفلاح المصري في الحرث واستغلال الحيوانات والطيور, ومدى استيعاب الأرض لفائض السكان, لبعدت علي الشقة.
ما أتمناه استفادة [وزارة الزراعة] عندنا من هذه الخبرات لتقليص ظاهرة البطالة, التي تسهم عملية ترشيد استهلاك المياه الجوفية في استفحالها, فحين قُضِيَ على زراعة القمح, تحولت آلاف الأسر العائلة إلى مَعُولةٍ. وخلف من بعد القمح زراعة الأعلاف، واستهلاكها من الماء أضعاف استهلاك القمح. والذين يخوفوننا من نفاد الماء، يستحثوننا على استنزاف النفط، وتلك مفارقة لم نحسب لها أدنى حساب، وأخوف ما أخاف احتناك النخيل بعد احتناك القمح، وساعتها يضاف إلى آلاف العاطلين آلاف أخرى. وكل الذي نرجوه عند اتخاذ القرارات المصيرية, أن يحسب للأعراض الجانبية حسابها.