أثار الفيلسوف الألماني توماس فاتسيك في مجلة دير شبيغل موضوع ضغوط الحياة، وقضية الشكوى المستمرة من ضيق وقت الفراغ، الذي يرغب الناس في تخصيصه للمتعة من جدولهم اليومي أو الأسبوعي. وقام في ذلك الطرح بقلب الفكرة القائلة، بأن الناس يحتاجون إلى مزيد من وقت الفراغ، إلى القول بأن العمل مهم للحياة، وأننا نحتاج إلى المزيد منه، وليس إلى التقليل من الوقت المخصص له.
وانتقد المقولات التي تربط بدء الحياة الممتعة بانتهاء يوم العمل، مشيراً إلى أن عدم وجود العمل، الذي يملأ نفس الإنسان بالرضا، يعطي إحساساً مشابهاً للموت، ومؤكداً أن ما يحتاجه المرء هو عمل يتناسب مع قدراته، وليس وقت فراغ يجعله يشعر بأنه عديم الفائدة.
كما ربط الفيلسوف الألماني بين العمل ونجاح العلاقات العاطفية، مشدداً على أن فقدان الشخص عمله يجعله يفقد الإحساس بقيمته – هو نفسه – حتى وإن كان في علاقة عاطفية جيدة؛ لأن سعادته في المجال العاطفي لا تمنعه من الدخول في نوبات اكتئاب، وهو أمر يمكن أن يؤدي أيضاً إلى فشل العلاقة العاطفية. وأكد في سرد تحليله لهذه المعادلة في العصر الحاضر، أن الفجوة هذه الأيام لا تزداد بين الأغنياء والفقراء فحسب، بل وبين من لديهم وظائف جيدة يستمتعون بها، ومن يضطرون لقضاء سنوات طويلة من أعمارهم في وظائف لا تتناسب مع قدراتهم. ونفى أن تكون ضغوط الرأسمالية لتحقيق النمو الاقتصادي باستمرار هي السبب الوحيد وراء هذه الأزمة، التي يقف خلفها أيضاً أرباب العمل الذين لا يحاولون تحفيز موظفيهم، ووضعهم في الوظائف التي تتناسب معهم، بل يقف وراءها أيضاً كسل الموظفين أنفسهم، الذين يقبلون بالأمر الواقع، ويرضون بقضاء سنوات في عمل لا يناسبهم، ولا يكلفون أنفسهم عناء البحث عن عمل جديد.
وماذا عن الآخرين، الذين لا يجدون وظيفة على الإطلاق؟ لا شك أن وضع أولئك الناس الذين يبحثون عن أي عمل، ولا يجدون شيئاً، أسوأ ممن لا يرتاح في عمله، أو غير قادر على محبته، والإبداع فيه. فالفشل في إيجاد عمل يعيش المرء منه، ويحقق من خلاله ذاته، هو أصعب القضايا في حياة البشر الطبيعيين؛ لذلك فإن كثيراً ممن يطيلون في البحث عن عمل دون جدوى يصابون باليأس، وتتعاورهم الأزمات النفسية. فالحياة لكل الكائنات قائمة على العيش من أجل الكسب، واكتفاء الفرد بنفسه باستقلالية عن المكونات الاجتماعية الكبرى. من أجل ذلك يقوم بعض المحبطين من عدم الحصول على وظيفة في حالات ليست قليلة بالانتحار، ليتخلصوا من حياتهم، التي يصنفون أنفسهم فيها بحالة الفشل العظيم، أو يعيشون على الهامش في أزمات نفسية كبيرة، وربما يلجأ بعضهم إلى تناول المخدرات للغياب عن العالم الواقعي.
تأملت ذلك وأنا أتذكر ما يقوله كثير من موظفينا عن فرحتهم بآخر ساعة من العمل، أو آخر يوم من أيام العمل في الأسبوع، وكأنهم يحسون بتحرر من قيد يكبلهم خلال ساعات العمل وأوقاته. إذ كان يوم الأربعاء في أيام الأسبوع سابقاً (قبل تغيير أيام الإجازة)، وأصبح يوم الخميس في تنظيم الإجازة الأسبوعية الجديد، من الأوقات المفرحة لكثير من الموظفين، لكونهم يحسون ببداية فترة المتعة، وانقضاء فترة الملل أو الإملاء بإرادة المدراء والتعب المفروض عليهم من غيرهم.
كما استعرضت مقولات كثير من موظفينا، خاصة في القطاع العام، الذين يرددون على مسامع من يتحدث معهم عن وضعهم، بأنهم غير مرتاحين على الإطلاق، لكنهم لا يفكرون في تغيير أعمالهم، إلى ما قد يتوافق مع رغباتهم أو قدراتهم، منطلقين من فلسفة: «عصفور في اليد»!