جمع الملك الشاب حكماء عصره، وطلب منهم أن يكتبوا له تاريخ البشرية، كي يطّلع عليه، ويستفيد من عظاته. وطلب منهم الملك أن يختصروه كثيراً بسبب كثرة مشاغله. فقال أحد الحكماء: يا مولاي تاريخ البشرية يتلخص في عبارة واحدة: «يولد الناس ثم يتألمون ثم يموتون». وقال حكيم آخر: «قلب يتألم .. قلب يتعلّم». فالألم هو الضريبة التي ندفعها نظير التعلم.
ثم طلب الملك من وزيره أن يكتب له وصفة السعادة؛ فاختلى الوزير بأقرب خلصائه، وشاورهم في الأمر. ولم يتفقوا على وصف موحد لطرق السعادة. لكن أحدهم أشار إلى شخص مسنّ يعيش بمفرده في عزلة شبه تامة عن البشر، ويصفه الناس بأنه في غاية السعادة. فذهب اثنان من الفريق المكلف بكتابة بحث السعادة إلى تلك التلال، التي يعيش فيها ذلك الرجل السعيد.
وبعد مشقة وطول عناء وصلا إلى مواضع وجوده، ومراتع حصانه (الحيوان الوحيد الذي يشترك معه في تلك النواحي). وبعد أن اطمأن إليهما، وعرف سلمية نواياهما، أدخلهما إلى مخدعه المتوسط بين مناطق وعرة في تخوم الجبال. فلما قدّم إليهما شيئاً من الطعام، وجداه لذيذاً، وشعرا بالراحة بعد أن تناولاه. بقيا صامتين إلى أن أطعم الرجل حصانه، وربّت على ظهره، وتبادل معه نظرات الثقة والاطمئنان، وعاد إليهما حاملاً عصاه، ومتكئه الذي يستند إليه من أجل الراحة، ومتابعة سير الأحداث من حوله. وبعد أن فاتحاه بما ينويان الحصول عليه منه، وما يرغبان في معرفته؛ أشار إليهما بأن يستريحا، وينتظرا إلى الصباح، لكي يقوموا جميعاً برحلة إلى الجبل المجاور، ليتمتعوا بهوائه النقي، ويتعرفوا على بيئة أخرى غير التي عرفوها. استسلما للأمر الواقع، وهيأ كل منهما نفسه للنوم والاستعداد للرحلة في الصباح إلى الناحية الأخرى.
سارت المجموعة في الساعات المبكرة من الصباح على وقع أصوات الطيور الفرحة بنور الصباح، وتحت تأثير ندى الضباب الموقظ لأحاسيس الفحولة الجامحة، إلى مسار يمتد بموازاة دوائر السفوح بطريقة تصاعدية ومتدرجة. وحينما توسطت المجموعة في الطريق الجبلي، بدا التناغم واضحاً بين مكونات الطبيعة وانفعالات ذلك الرجل المنتعش المملوء حيوية ونشاطاً رغم تقدم سنه.
لم يعطهم أوامر، أو يسير أمامهم ليريهم خطته في تلك الرحلة؛ بل كان جل ما يقوم به إيحاءات بأن إمكانات الراحة متوفرة في كل وقت، وأن ساعات النهار لا تحكمهم في المسير أو الاسترخاء. كما ردد على مسامعهم بأن الطبيعة تفرض قوانينها على من ينخرط في ثناياها، وأن المرء يستوحي تعليماته في كيفية حياته الطبيعية من نظام داخلي ينشأ نتيجة التكيف مع نظامها البيئي. لم تتجاوز تلك الكلمات حدود الواقع الصوتي المعهود لكلمات الناس، لكن شيئاً مختلفاً أحس به الرجلان وهما يمتثلان لإيحاء ذلك الرجل الغريب الأطوار.
وساروا إلى أن وصلوا الهدف المنشود .. لم يكن أكثر من انحناءة تقودهم إلى طريق باتجاه معاكس. فسلكوه نحو موطن الرجل السعيد، لكنهم كانوا يشعرون بصعوبة في التوازن بين انحداره مرات، ومدى الحاجة إلى ضبط حركات أجسادهم وفقاً لذلك الانحدار. وقد كان أقصر مسافة، وأسرع إلى ذلك المنطلق وصولاً؛ لكنه كان خالياً من النباتات التي كانت تحف بالطريق الأول صعوداً، والذي كان ممتلئاً بكل أنواع الحياة.
وصلوا إلى مقره مرة أخرى، وقبل أن يستقبلهم حصانه بصهيل من نوع خاص. وما أن دلفوا إلى المكان، حتى تذكّر أحدهما المهمة التي من أجلها جاءا إلى هذا الرجل؛ فخاطب صاحبه قائلاً: أما تعلم بأن المهلة التي أعطيناها انتهت؟ قال: وهل بدأت؟
- الرياض