Saturday 11/01/2014 Issue 425 السبت 10 ,ربيع الاول 1435 العدد
11/01/2014

شغف الطفولة وملل الكهولة

كانت بعض التيارات الفكرية المتعددة في الفترة الغربية المتقدمة من عصر التنوير قد أرجعت مراحل تطور المجتمعات الإنسانية إلى ما يشبه مراحل حياة الأفراد؛ ومن تلك المقارنات ما أورده من قبل ديكارت من كون المجتمعات في الوقت الذي تتكوّن لديها ثقافة راسخة من الأحكام المسبقة تشبه وضع الإنسان وهو يمر بمرحلة الطفولة، ورأى أن البشر بحاجة إلى وقت كافٍ لكي يبلغوا مرحلة الرشد. وبهذا المعنى وردت بعض أوصاف الأحكام المسبقة على أنها مرض من أمراض الفهم، وأن الحكم المسبق يسجن الإنسان في خصوصية تمنعه من بلوغ الفضيلة والسعادة وعالمية الإنسان. وفي هذا السياق أورد دي مارسي في كتابه: «محاولة في الأحكام المسبقة» في تحديد الحكم المسبق: «إنه لمن الواضح أن جميع الآراء الدينية والسياسية للناس ليست إلا أحكاماً مسبقة، لأنها تؤدي إلى تبعات خطيرة، ونتائج كارثية على مختلف المستويات». كما وصف روسو الأحكام المسبقة بالسلاسل والأغلال، وبالطبع فإنه لا يمكن تجاوز الأحكام المسبقة والانعتاق منها إلا بواسطة النقد.

وفي مرحلة التطور المشابهة لتكوين الشباب عند الإنسان، نجد أن ما يطلق عليه «التكييف» هو الوسيلة الأكثر تداولاً فيها؛ إذ تكون الحيوية، والقدرة على التأقلم هي المسيطرة في هذه المرحلة، ولا يخاف المجتمع في تلك المرحلة من هيمنة الثقافات الوافدة عليه، كما يحاول دائماً الإضافة إلى ما يرد إليه. ويتفاعل غالباً بطريقة إيجابية مع ما يختلف عما تعوّد عليه أو كانت عناصره مألوفة بالنسبة إليه.

لكنه بعد ذلك يبدأ في اجترار عمليات «الإعادة» وتكرار ما كان يصبو إليه. وتبدأ في هذه المرحلة أشكال من الحنين إلى الفترات الماضية، والتحسر على ما كان إيجابياً وجميلاً في شؤون الحياة والعلاقات الاجتماعية، بل والاقتصاد، وربما الشعور بالسعادة وطعم الحياة المتمثلة في الأنماط السابقة لوضعه الراهن.

ومع كثرة تكرار عبارات الحنين يصدق كثير من أفراد المجتمع أن الحياة السابقة في المراحل المختلفة كانت أجمل بسبب فروق نوعية بينها وبين الآنية؛ دون أن يخطر ببال أغلبهم أن طريقة استقبال أحداث الحياة وأحوالها هي التي تغيرت. ولا يدرك كثير منهم، أنهم لو غيروا طريقة نظرتهم إلى الحياة، تغيرت أيضاً حالات استقبالهم لتلك الأوضاع.

وفيما يلي مرحلة الشباب تبدأ عمليات التنافر تنخر في عظام الكيان؛ إذ تصبح كل التغيرات قابلة للتفسير بوصفها عوامل ضعف أو انهيار. وهنا يبدأ التوتر يتصاعد، وربما يصبح قادراً على توليد حالات الصراع النفسي داخل الأفراد، والتباين في المصالح والنظر إلى منطلقات العيش المشترك، وحقوق الناس وواجباتهم، وكذلك حدود كل فئة ومصير كل علاقة بين الناس، وبينهم وبين الأشياء والمؤسسات. فيتعاظم نفور الفئات الاجتماعية بعضها من بعض، ويدب بين عدد منها عداء غير معروف، ولا يلبث أن يتحول إلى أبنية ثقافية تحيط بالمكونات الاجتماعية.

أما في مرحلة الكهولة، فإن السائد هو ما يمكن أن يطلق عليه مجازاً طريقة «حصان طروادة». إذ تصبح السيادة للأشياء المعتادة، وتقل تبعاً لذلك مساحات الفضول، حيث يصبح كل منهج في الحياة يدخل معه تفصيلات عديدة من التطبيقات، دون أن تلفت نظر كثير من أفراده.

وعندما تغيب التصورات الكلية عن الاستقبال الذهني، فإن النظرة تصبح جزئية ومحددة في أحد العناصر في كل مرة؛ مما يجعل فكرة الانسجام تغيب معها أيضاً، فتفقد الأمور بشكل نهائي وحدتها الشاملة؛ لأنه دون ضم الصور الملائمة بعضها إلى بعض، لا يتحقق تأمل بانورامي للمراحل الكبيرة المختلفة على طريق التطور الإنساني، من أجل بلوغ كلية الإنسان.

- الرياض