الحرية المطلقة مفسدة مطلقة .. وأي تجمع بشري لا بد أن يقوم على نظام يكفل للفرد حقوقه، ويُلزمه بأداء واجباته. والحرية مطلب ملحّ في جميع التعاملات، ولكن بشكل يكفل عدم تجاوز حقوق الآخرين. والفنون التشكيلية هي لغة بشرية، وفعل إنساني لا غنى له عنه. مثلها مثل أي نشاط إنساني، لا بد له من تنظيم ورعاية وتنمية وحفظ لحقوق ممارسيه وأداء واجباتهم بنظام؛ وهو ما جعل الضرورة ملحّة لوجود المؤسسات الحكومية والخاصة التي تعمل على ذلك؛ فكانت نقابات التشكيليين في كثير من الدول، وجمعيات للتشكيليين في دول أخرى، وهي تعمل بمختلف أسمائها على حفظ حقوق الفنان، وتنظيم علاقته مع الفنانين والمجتمع، وتكون مساحة الحرية كافية ومحفزة للإبداع الذي لا يتجاوز على الآخرين وحرياتهم. وإذا ما أُسيء استخدام الحرية، وتجاوز الفرد حرية غيره أو مجتمعه فلا بد من أن يُعدل مساره، ويعود لمستوى حريته التي لا تتعارض مع حرية غيره. ولعل هذا ما دعا إحدى الحكومات الأوروبية لإغلاق صالة عرض للفنون فترة من الزمن، وحرمانها من المعونة الحكومية السنوية؛ وذلك لعدم احترامها سقف الحرية المرتفع الذي مُنح لها بعد أن عرضت مجموعة حيوانات نافقة، بعضها متحلل، واعتُبر ذلك العرض مسيئاً وخادشاً للذوق العام؛ استحقت عليه الصالة العقوبة..
وعلى مستوى الساحة التشكيلية المحلية، فإن مستوى الحرية فيما يعرض الفنان وتعرض الصالات تفاوت بين متوسط إلى ضعيف. ومع تعدد المؤسسات الثقافية التي تُعنى بالتشكيل إلا أن الدور النقابي والرقابي لم يفِ بالغرض. فالاشتغال على المعارض والأنشطة التنفيذية كان هو الدور الرئيسي لها، ولم يتم العمل على البنية الأساسية والتنظيمية لأمور التشكيليين عدا بعض الجهود في تأسيس جمعية التشكيليين. ومرت مسألة فسح المعارض وإجازة الأعمال محلياً بمراحل عدة، بدأت بلجنة بها أعضاء من وزارة الداخلية وموظف من الرئاسة العامة لرعاية الشباب, حتى وصل الأمر قبل عامين ونصف العام تقريباً إلى أن تتحمل الصالات والجهات المنظمة للمعارض مسؤولية إجازة المعارض، وهو سقف مرتفع من الحرية، ووضعت الثقة والأمر بكامله في يد أهل التخصص، ولكن للأسف لم تُجِد الصالات والفنانون أنفسهم التعاطي مع هذه الحرية، وبدأ شيء من الانفلات والتجاوز في العروض، وهو ما أرجعنا لنقطة الصفر في إجازة المعارض، وأُعيد الدور الرقابي من جديد؛ وذلك لعدم وجود آلية واضحة ومعدَّة من أهل التخصص والمؤسسات الثقافية المعنية؛ ففُرض التنظيم من خارج المؤسسة الثقافية، وأُعيدت اللجان لمراحلها الأولية, ولكن الذي أتمناه الآن أن يكون هناك آلية واضحة ومعلنة ومعدة بشكل منهجي لعضوية وأعمال اللجان وفق خطوات إجرائية واضحة ومتخصصة، وبعضوية أهل التخصص، وإشراف المؤسسات الثقافية المختصة، وألا تُضيق مساحة الحرية للفن فتكون خانقة. وفي المقابل التعامل مع المتجاوز بما يليق بالثقافة والمثقف.