لا يمكن لعاقل أن يتخيل أن نصف تلاميذ البلاد.. أي من هم في المرحلة الابتدائية الآن قد (أجزوا)، أي بدأت إجازاتهم الدراسية فعلاً قبل أكثر من ثلاثة أسابيع، وعندما يُنشر هذا المقال يكونون وقد تمتعوا بالرابع كإجازة فعلية بين الفصلين! وذلك بحكم أنهم يخضعون لهذا النظام المسمى التقويم، ومن ثم فلا امتحانات ولا هم يحزنون..
وهذا سأخصص له مقالة كاملة لما له من أثر دمَّر المهارات القرائية والإملائية والرياضية لجيل بكامله، ولن نسامح - نحن الأهالي - من نصح بمثل هذا النظام الذي لا يُقدم إلا في بيئة تروية متكاملة.
إذن شهر كامل بين الفصلين، وأربعة أشهر في الصيف، وأسبوع على الأقل قبل بداية كل فصل حتى تنتظم الدراسة، وكما شاهدنا في هذا الفصل ثلاثة أسابيع قبل نهاية الفصل مع أسبوع ما بين الفصلين، وهناك إجازة الربيع وإجازة اليوم الوطني والغياب قبلها وبعدها، ويا سلام فلا أحد ينافس الطالب السعودي في مقدار ما يتمتع به من وقت للفراغ، ولا أحد يعرف بالضبط كيف يمكن للعملية التعليمية أن تحدث في ظل كل هذا التسيب؟!
وإذا كانت الوزارة غير معنية بذلك فلا أقل من أن نسأل نحن الأهالي عن المضاعفات المعرفية والتربوية المترتبة عليه، فتقطُّع فترات التعلم بهذا الشكل مع فقدان عدد كبير من أيام الدراسة سيشتت أية مفاهيم أو معارف يدرسها الطالب وبخاصة الصغار منهم، والذين لاحظت معظم الدراسات أنهم ينسون المفاهيم اللغوية والرياضية بسرعة، وأسالوا المعلمين عن ذلك وبخاصة مع بدء العام الدراسي، حيث يجدون أنفسهم مرغمين على مراجعة أساسيات في اللغة والرياضيات لاسترجاع ما نسيه الطلاب خلال فترة الإجازة.
المشكلة أن المدرسة السعودية وبقدر كرمها في منح هذه الإجازات بقدر بخلها في تنظيم نشاطات خارجية تشغل هذا الطفل وتملأ يومه بالحركة والتفاعل الاجتماعي والرياضي والعلمي مع غيره من الأطفال، كما تفعل كل مدارس العالم حينما لا تكون هناك دراسة فعلية، وكيف يمكن فعل ذلك ونظام المدارس هنا قائم على أن المعلمين يحضرون مع الطلاب ويغادرون معهم بعد صلاة الظهر، وهم ليسوا مطالبين بأية مهام خارج التدريس فيما عدا بعض المهمات الإشرافية على خروج الطلاب (بالمناوبة)؟.. كما أن النشاط الرياضي وهو أساس في كل مدارس العالم لا يجد حيزاً في جدول الطفل السعودي فيما عدا حصة واحدة في الأسبوع وللذكور فقط، والمدارس لا تُعنى به وتعتبره نشاطاً تكميلياً إن وجد، وهو ما يجعل علاقة الطالب بالمدرسة (تحفيظية) (تلقينية) للمواد الدراسية للعبور من خلالها من مرحلة دراسية إلى التي تليها دون عناية بفكرة (التعلم) (من خلال العلم) وفكرة النمو (المتكاملة) للمتعلم من كافة الجوانب الجسمية والعاطفية والعقلية من خلال نشاطات متكاملة تقدمها المدرسة له وللحي الذي يعيش فيه.
ماذا يفعل أطفالنا خلال فترات الغياب هذه؟.. وماذا يفعلون حال خروجهم من المدرسة؟
يتسمّرون أمام شاشات الكمبيوتر، يلعبون ألعابهم الإلكترونية ويأكلون ليل نهار، لذا لا غرابة في أن احتلت المملكة المركز الأول من بين أكثر الدول التي تنتشر فيها الإصابة بداء السكري للأطفال، كما صرح بذلك الاتحاد العالمي للسكر في إصداره الجديد (أطلس السكري) حيث ارتفع عدد الإصابات المسجلة بالسكري في السعودية مقارنة بعدد المصابين في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لتتخطى السعودية بذلك أمريكا التي كانت الأولى في العالم من حيث إصابة أطفالها بسكري الصغار.
وأشار د العمراني في صحيفة جامعة الملك سعود لهذا الأسبوع إلى أن نسبة الإصابة في المملكة بلغت 28% وهذا يعني أن عدد المصابين بين أربعة وستة ملايين، وأن الرياضة والنمط الغذائي السليم هما أهم وسيلة يمكن أن ينصح بها لكل إنسان مصاب أو سليم لتجنب مضاعفات هذا المرض والأمر نفسه يُقال بالنسبة لأمراض السمنة والعواقب الصحية المترتبة عليها وكذا أمراض القلب والكوليسترول.. وكله لأن أطفالنا لا يجدون ما يفعلون في مجتمع مدني تنقصه المؤسسات المدنية التي ترعاه وتحقق احتياجاته مثل مدرسة متكاملة في برامجها التعليمية والترفيهية، ومن مثل أندية الحي أو المنتزهات أو أماكن الترفيه والرياضة المقبولة والمدعومة اجتماعياً وحكومياً.
قد يقول قائل: وما مسئولية المدرسة في كل ذلك؟.. ولماذا نحملها كل مشاكل المجتمع؟.. فالطفل في النهاية ابن لعائلته التي يجب أن تعتني به وتهيئ له الممارسات الرياضية والأنشطة التي تحميه.. ونقول له إن المدرسة في كل أنحاء العالم تمثل القلب النابض للحي الذي توجد فيه، فساحاتها وملاعبها ومسابحها إن وجدت تحت خدمة الحي وخصوصاً في الفترة المسائية بعد نهاية اليوم الدراسي والذي يتبعه في العادة برامج أنشطة لا صفية وتُسمى نشاطات ما بعد المدرسة إضافة إلى الأندية المختلفة التي ترعاها المدرسة مثل رعايتها المواد الأساسية في الجدول وتقدم لها الدعم المادي والبشري مثل نادي الرياضيات ونادي المسرح ونادي الأمم المتحدة ونادي اللغة أو نادي الفلسفة ونادي التصوير الضوئي ونادي الموسيقى وهكذا، هذا بخلاف الأنشطة الرياضية الإلزامية مثل الكرة والسلة والسباحة وكل طالب يجب أن يكون عضواً في اثنين على الأقل ونوع من الرياضة وهو ما يجعله مشغولاً طوال النهار كما يساعده على اكتشاف مواهبه واهتماماته والعائلة تساعد المدرسة بالتطوع لرعاية بعض هذه الأنشطة أو للتدريب على بعضها حين توجد الخبرة وهكذا، فأين نحن من هذا النموذج وما الذي يحدث لأبنائنا في ظل غياب ذلك؟ سمنة, وأمراض صحية ونفسية وعدوانية متزايدة بسبب الإدمان على الألعاب الإلكترونية العنيفة خصوصاً أن لا رادع لأي محل أن يبيع أية لعبة لأي طفل ومهما كانت التحذيرات على العلبة أنها فقط لمن هم فوق 18 سنة ونتيجة للفراغ الهائل في حياة الطلاب من أية اهتمامات أو أهداف إنسانية أو فنية أو ذهنية فهم ضحايا سهلة لتجار المخدرات والتي كما نسمع من كثير من الأمهات المكلومات قد انتشرت في المدارس وبخاصة بين طلبة الثانوية والمدرسة السعودية بلا شك تتحمل جزءاً كبيراً من مسئولية هذا الدمار الاجتماعي المستمر بغيابها الدائم عن حياة طلابها.