حين أقلعت الطائرة من دبي شعرت بقلبي ينفطر على مطار الملك خالد الغارق في سباته وبدائية تصميمه ومحدودية من وضع استراتيجيته منذ عقود خلت؟.. كل شيء هنا في دبي يعلمك انه مخطط للزمن... للمستقبل وليس الآن.. المطار... المجمعات التجارية...الحركة العمرانية الأنشطة الفنية والثقافية..
المواصلات..... كل شيء يقول لك نحن هنا نتأهب لاستقبال أكسبو 2020 التي يتوقع بحلولها أن تكون دبي قادرة على استضافة 25 مليون مسافر.. يا إلهي : في اللحظة التي حطت فيها الطائرة السعودية في مطار الملك خالد وخرجت للبحث عن سائقي.. شعرت بأنني في حراج.. حراج حقيقي الكل فيه يصرخ والأمور مخبوصة على بعضها ما بين سائقي الأجرة وسائقي المركبات الخاصة السعوديين الذين يحاولون إقناع الزبائن لحملهم، والسيارات الخاصة التي تقف في كل مكان والناس تبحث فقط عن الخلاص. في هذا المطار لا تكون مضطرا لاحترام اية قوانين. ما تبحث عنه هو كيف تهرب بجلدك من هذه الفوضى (الخلاقة) ومن ثم يضطر الجميع لمخالفة النظام لأنه لا يوجد نظام عملي واقعي تم التدرب عليه وفرضه من خلال إجراءات إدارية وتنظيمية واضحة كما في كل مطارات العالم.
رجل الرافعة الحديدية يهدد من مكانه بصوته المعهود: انت.. يابو الدتتسون.. تحرك.. تحرك وميكرفونه يصم الأذان ويبدو من لا يعرف العربية ضائع فعلاً.. اذا كنا نحن لا نستطيع تحمل وفهم أسباب هذا القصور في التنظيم والذي يتبعه بالضرورة قصور سلوكي وثقافي فما حال الغرباء عن هذه الديار؟
السؤال: اذا كانت دبي الصغيرة البسيطة والتي لا تمتلك النفط استطاعت فعل ذلك كله... فما الذي يمنعنا؟ ما الذي يجعلنا نحدق بدهشة في كل هذه الإنجازات التي تحققها هذه المدينة المعجزة في حين نصارع مع انفسنا والآخرين لأجل أفكار بسيطة مبدئية تجاوزوها منذ عقود ولا زلنا نلوك أنفسنا ومجتمعنا فيها ونقف متربصين وخانقين لأنفسنا وتاريخنا دون ان نعرف لماذا نقف؟ بعض السر كما أفسر هو في هذا الرجل المعجزة الذي اوجد استراتيجية مستقبلية وآمن بنفسه وبشعب الإمارات لتحقيق المعجزات. لم يغرق نفسه في التفاصيل المحلية واشترى المستقبل حين كان الجميع يسخرون منه، وها هو يقف في تحد واضح للتاريخ ضد كل الخيارات الصعبة التي جعلت دبي تفوز على دول العالم بتنظيم اكسبو 2020.
مثلاً: نشر في جريدة الخليج عدد 12625 بتاريخ 15 ديسمبر 2013 وبحجم الصفحة الأخيرة رسالة شكر من محمد بن راشد بن مكتوم أمير دبي قائلاً: اشكر شعب الإمارات على تفاعله الإيجابي # العصف_ الذهني_ الإماراتي والذي وصلت مجموع أفكاره 82 ألف فكرة خلال أقل من أسبوع!!!
هذا نموذج بسيط يجسد القناعة التي تسير بها هذه الدولة الا وهو الإيمان بالقدرات المحلية وتطعيمها أو حتى إدارتها بالخبرة الأجنبية ان لزم الأمر، دون تحرج او إحساس بالتفوق الوهمي ودون امتلاك الخبرة كما يحصل في نظام السعودة. الكل هنا مقدر بحسب خبرته ودوره. لا فروق مقررة حسب الجنسيات كما نلمسها في الشارع السعودي، حيث تبدو الفوقية الثقافية على أشدها فالسعودي يتمختر في شارعه وقد يتجاوز الإشارة مثلا كما قد يسب سائقا اجنبيا حتى يتجاوزه دون ان ترمش له عين، فكل ما حوله يؤكد تفوقه الوهمي، والكل يقول له ان هناك خصوصية تميزك فابق بعيداً عن الآخرين والعالم، وانظر لهم من عل حتى تحافظ على (مخازنك التاريخية الوهمية الثمينة)!!
دبي بالمقابل تؤكد على أهمية كل خبرة وتحترم إنسانية كل جنسية دون عقد ثقافية، فالهندي مثل البريطاني مثل الكرواتي .كل الجنسيات تعمل دون شروط طالما توافرت فيها الخبرة المطلوبة. بالطبع فالإمارتي يكافأ اعلى من غيره كما يتمكن من التملك بشروط ميسرة لا تتوافر حتى للخليجيين وينعم جميع موظفي الدولة من الإماراتيين برواتب وبدلات مجزية لا نحلم حتى بنصفها، كما تجدهم خلال المناسبات الثقافية والفنية والعلمية المهمة موجودين في مقدمة الجيوش المنظمة لكل هذه الفعاليات التي لا تتوقف والتي بلا شك يقف خلف تنظيمها الساحر والدقيق خبرات أجنبية عريقة لا تجد دبي حرجاً من توظيفها لتحقيق تميزها وها هي تكسب ذهباً من جراء ذلك!.
كتبت إلي سعودية جاءت للتو من دبي الآتي:
هل هذه حقيقة أم خيال؟ كل سعودي مغادر لدبي يسأل هل كنت في حلم؟
شاهدت جميع الجنسيات ووجدت أن لها نفس الحقوق والاحترام. لمست في هذه الجنسيات بالمقابل نظرات الحب لهذا البلد، والحرص على الحفاظ عليه من أي سوء. كل هذا جعلني أسأل نفسي ذات السؤال: لماذا دبي؟ ما الفرق؟ ما هي المشكلة في ان نكون الأفضل والأقوى والأقدر؟ فنحن شعب ودولة وموقع استراتيجي وقدرة سياسية وسكان ودخل وملك رائع، نملك كل المقومات التي كان يجب ان تضعنا في الصفوف الأولية، فلماذا نصفّ اليوم - مثل الطلاب الكسالى - في آخر الصف الخليجي؟ا.
في دبي كان الجميع يبتسم ويلقي السلام تيمنا بالحبيب الذي قال كما رواه مسلم (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم).
هل أفشينا السلام بيننا؟ كم أتمنى أن يرد أحد على سلامي في الرياض, وكم تلاحقني نظرات التعجب والاستنكار (ماذا تريد؟!.. من هذه؟!.. كيف تسألني السلام وأنا لا أعرفها؟!.. أتذكر ولدي ذا الثماني سنوات عندما كان يقف في دوره في احد مطاعم الرياض لطلب الوجبة، وكلما اقترب يتدافع باقي الأطفال وحتى الامهات من يسبق الآخر ويأخذ مكان طفلي الذي كان يأتي باكياً ومتسائلاً: لماذا لا يحترم أحد دوره؟!.
أين الخلل؟ من المسؤول عن الطابور لكي يعلم هؤلاء البشر؟. احترم دورك. فكل له الحق والكل سواسية لكن المبدأ هنا أنا ابن البلد أولاً ثم الأقل من جنسيات أخرى. ولكن من هم الأقل وعلى أي أساس صنفت (قلته) (الثقافية) هل هو الأقل فقط لأنه أجنبي او مختلف في لون بشرته سوادا او بياضا عن المعهود؟ أم هو العرق أم القبيلة, أم الجنسية.أم الدين؟. ما هذه العنصرية المتجذرة المعيقة لكل عمل جماعي؟.
ماذا أفعل لكي أطفئ نار هذه الأسئلة التي لا شك تتقد في ذهن كل سعودي يمر بدبي. أعود لها مرة أخرى وأبتسم، فقط اعود لها وأقول: عشت يا دبي معجزة الخليج في العصر الحديث.