لأول مرة في حياتي تغسل شعري وتسرحه امرأة سعودية هذا الأسبوع، وذلك حينما ذهبت للمشغل النسائي في طريق أبو بكر الصديق في مدينة الرياض، ولأول مرة في حياتي منذ التحقت بالعمل في جامعة الملك سعود تقوم بتنظيف مكتبي فتاة سعودية وتديرها امرأة سعودية أخرى تحمل في يدها الواكي توكي للتنسيق بين فريق العمل النسائي السعودي الذي تشرف عليه، كما أجابتني حين تحدثت مع الفندق امرأة سعودية، وهكذا.
سيهرع المناوئون لعمل المرأة قائلين: أهذه هي الأعمال التي تريدون إلحاق المرأة بها؟ هل هذا (يسوي) أن تخرجي المرأة (هذه الجوهرة النادرة) من مخبئها وترميها في حمي السوق؟ أقول لهم: نعم أتفق معكم.. لا ليست هذه هي الأعمال التي نرجوها سواء للمرأة أو الرجل السعودي أو لأي كان.. لكن البعض وفي مرحلة ما من حياتهم قد يكونون مضطرين لهذه الأعمال البسيطة الدخل حتى يتحسن مستواهم بمزيد من التعليم أو التدريب ومجرد خروجهم من مخابئهم المعزولة سيتعلمون فنون الحياة والمواجهة وسيتعلمون هم وأسرهم عن فرص مالية أو تدريبية أو وظيفية لم يعرفوا عنها من قبل تماماً، كما حصل مع هذه السعودية التي تنظف مكاتبنا، لقد تعاطفنا جميعاً معها وأخذنا بياناتها واتصلنا بجمعية خيرية قامت بزيارتها في المنزل وزيارة منزل شقيقها المقعد والأوراق في طريقها لتقديم مساعدات مالية وعينية ورعاية طبية لم يكن لهذه الأسرة أن تعرف عنها لولا أن فتاتها الشابة خرجت للبحث عن رزقها.
في كل حال علينا أن نتذكر أن ليس كل امرأة ستكون مجبرة على البدء في حياتها المهنية بهذا الشكل لكن قطاعاً كبيراً من الفتيات اللاتي يأتين من أسر فقيرة هن بحاجة إليها ولا يجب أن يمنعهن النظام الاجتماعي من حق العمل.
في رأيي، فإن الحالة التي يمر بها المجتمع السعودي اليوم من حيث رؤيته للمرأة عاملة في مواقع غير مألوفة سيساهم في تكسير هذا الجدار الوهمي من الفصل الذي بنته سنين من الترصد والتشكيك والنظر إلى المرأة (كمنتج جنسي) عاجز عن إدارة نفسه أو إعالتها، ومن ثم فهو بحاجة إلى سلطة خارجية دائمة لتنبيهه والأمر عليه وتسييره حسبما يرى (أصحاب) تلك النظرة المرضية.
الأسر أطفالاً ونساء وشباباً سيعتادون تدريجياً على وجود المرأة وصوتها وسيضطرون للتعامل معها من خلال موقعها المهني لا من خلال صورتها المرضية الآنفة الذكر.
نعم سيحتاج ذلك إلى زمن ووقت وتغير ذهني وثقافي، وستحدث خلال ذلك بعض التجاوزات من الطرفين لكن ذلك كله أمر مرهون بقدرتنا على تقديم صورة واقعية وإنسانية للمرأة عبر مناهجنا ووسائل إعلامنا، وهي تفعل ذلك الآن (أقصد وسائل الإعلام) عن طريق إظهار إنجازات المرأة في كل الحقول؛ سواء الطب أو الرياضيات أو العلوم أو التجارة.. إلخ.
مشاركة المرأة في الأماكن العامة سيقلل من حالة الطرد السلبي التي لاحقت هذه المرأة خلال عقود الصحوة الماضية حيث اعتدنا ان تخيفنا المرأة أينما كانت فنحاول (الستر) عليها بتعجيل انهاء ما تحتاجه حتى تختفي عن أعيننا (انظر الحالة في المطار أو في محل تجاري أو خباز) والكلمة (خلصها ياشيخ تراها حرمة!!) وكأن الأمر تهمة! أو (فشيلة) يجب مداراتها بسرعة لتعود هذه (العورة) للاختباء حتى لا يراها أحد!!!
مشاركة المرأة الحالية سيعدل من نظامها القيمي نفسه؛ سواء تجاه نفسها أو عملها إذ لعقود طويلة أشيع الوهم بعدم مسئولية المرأة عن نفسها أو بيتها فهي تابع وقاصر، وعلى الرجل إعالته وتربيته وعلى المرأة تحمل ما يأتي مع هذه الرعاية من ظلم واجحاف من الزوج أو الولي أين كان، فلم تضع المرأة لنفسها رؤية خاصة بمستقبلها، أو ماذا تود أن تكون وسارت مع ما يتيحه واقعها الأبوي ثقافياً واقتصادياً. اليوم عليها أن تفكر فيما يجب عليها أن تفعله وكيف تؤمن مستقبلها ومستقبل أبنائها بمشاركة رفيق دربها الرجل وسيعدل هذا من النظام القيمي في رؤيتها للرجل، كما سيعدل الصورة (السلبية) (المتلقية) التي يراها فيها الرجل.
خروج المرأة للعمل سيعدل موقفها وقيم العمل داخلها شاءت أم أبت. أرى اليوم بعض السعوديات الجدد على درب العمل وفي نظراتهن بعض القنوط والقلق أو التراخي وأداء الأعمال (خاصة) البسيطة) والتي يرين أنها مهينة مثل التنظيف. نعم، هي اعمال بسيطة والمجتمع ينظر إليها بشكل دوني الآن، لكنها مرحلة في حياة أي شاب أو شابة يضطر لها وعليه أو عليها أن يعمل على تعديل وضعه التعليمي أو الوظيفي بإبداء رغبة أكبر في العمل والتعليم والتدريب. قيمة العمل ستتجذر تدريجياً وسنبدأ في رؤية الشباب عاملين جادين مهما صغرت مواقعهم.
سيعدل خروج المرأة أيضاً من قيم المجتمع (الذي اعتاد الرعاية الإحسانية والمنة) الكثير من الأسر اعتادت حالة الفاقة وتمكنت من التواؤم معها عن طريق (الشحاتة) المباشرة أو عن طريق الاعتماد على ما يأتي من الخيرين وهم كثر ولله الحمد. لكن هذا لا يشكل مواطناً طبيعياً أو مجتمعاً منتجاً، كما أن غياب نظام خدمات اجتماعي شامل يضمن الحد الأدنى من الحياة الكريمة لكل المواطنين بضمان وصول الخدمات من تعليم وصحة ومسكن لائق إلى من لا يتمكنون من الوصول اليها يزيد الأمر تعقيداً ويفرض على المواطن واجباً أساسياً ألا وهو ان يكون مسؤولاً عن نفسه أولاً وأخيراً، وألا يعتمد في معاشه على المساعدات المتقطعة هنا وهناك.
ما الذي يحتاجونه منا كمجتمع حتى ندعمهم؟ الكثير. فلا يكفي أن تلقي بالفتاة في البحر وتعطيها مجدافاً وقارباً وتطلب منها التجديف دفعة واحدة. هي تحتاج إلى صيانة للقارب وتحتاج إلى أجواء مناخية لطيفة حتى تجدف وتحتاج إلى دعم اذا تعطل القارب. هذا يعني أننا بحاجة إلى نظام داعم يتوازى مع ما نتوقعه منها لمساعدتها على اختراق حاجز الجهل المفترض ولا يترك ذلك للجمعيات الخيرية أو لمن رغب بل يجب ان يكون ضمن نظام مؤسسي حكومي متكامل تدعمه وزارات عدة منها وزارة العمل والخدمات الاجتماعية ووزارة التربية.. أي خدمات صحية وخدمات مواصلات مجانية وخدمات رعاية أطفال ووجود حد أدني للأجور يتوازى مع مستويات المعيشة المتوقعة للسعودي بدعم مباشر من الدولة لمن تقل مرتباتهم عن نسبة معينة وهي هذا الحد الأدنى.