تنصهر الطرق تحت تدفق الماء، فتنخلع من سرّة الأرض ليطوق خاصرة الرياض، يلتف الماء حول أعناق جهاتها الأربع، فتصبح الربكة والبركة والبحر والبحيرة والغدير والمستنقع، ويجيء التيه من شدة الاشتباك والازدحام والإغلاق، وتصبح الأنفاق سدوداً، والطرقات مثل بحر والممرات نهراً، حيث تتلاشى معالم الطرقات والأنفاق،
التي يطويها الشقاء والخمول والإرهاق عند كل مطر، لا يسترها شيء، يتنفس التيه وحده في المنعطفات والأزقة الترابية الموحلة الموحشة، يجيء الماء من كل مكان، ينبعث من حيث لا ندري، يتعكّر مزاج الناس المتصدع، تغلي عروقهم المشوية بمراجل السؤال والاستفهام والتعجب، بعد أن تحط كل سحابة ماطرة وتفعل فعلتها العاجلة، حيث تبلل وجوه الناس وأسمالهم وتخرب أمزجتهم لتحيلها إلى أمزجة مائلة، حركة المرور في الرياض تتعطل عند كل قطرة مطر ويصبح وقع السحابة غير السحابة!، وتتعطّل بعض الأعمال والنشاطات ويغيب كثيرٌ من الناس عن أعمالهم نتيجة الفعل المناخي وعوامل البنية التحتية الرخوة للطرقات، ويصيب الرياض بما يشبه الشلل، وتختفي مظاهر الحركة المعتادة في الشوارع، فلا تسمع إلا ضجيج الماء الهادر في الشوارع وصخبه المدوي، الذي ربما كان هو السبب في تصدع طبقة الأسفلت، وتشقق قشرة الأرض وأسمنت النفق؟! سحابة الرياض الماطرة حين تجيء تتوالى ضرباتها على وجه المدينة، وتتفشى حمى الإعياء بين الناس، ويتفجّر النزيف الأنفي، وتظهر على الناس ملامح الإجهاد القلبي، وترتفع حرارة أجسامهم، وتتزايد سرعات تنفسهم ونبضهم، فتضطرب عندهم الرؤية وينخفض ضغط الدم، تتعامد خيوط الماء فوق هامة المدينة، فيصب البلل من مسامات أرصفتها وأرضها، فتتعرّق طرقاتها وممراتها وأزقتها وتصبح بلون الوحل، وتتبخر المدينة برائحة الغرق، ويتلاشى بريق أصدافها وحسنها، وتختفي مفاتنها الآخذة وقوامها الجميل وجدائلها التي تشبه الذهب، ويتسلّق الطين والصدأ إلى قمة جسرها، عامود نورها، والنفق، فتشتبك السيارات المتعبة، وتتصاعد زفرات السائقين, وتتعالى الأسئلة الكبيرة، فيطفو القلق والتوتر والعصبية والنرفزة، فتتزايد معدلات التصرفات العدوانية المتمثّلة بالتصادم والشجار، ولا يجد الناس بُدّا من صب جام غضبهم على أهل المشاريع الفاسدة، والضمائر الميتة، وأمانتهم القابعة في غيابة الجب، ولا يترددون في نعتهم بأغلظ العبارات، واتهامهم بأنهم لا يفكرون إلا في مصالحهم الشخصية البحتة دون العامة، ويتزايد حنقهم على هؤلاء الخفافيش التي تلعق الدم وتقتاته، إذ ليس من المعقول أبداً أن مدينة كبيرة بهذا الحجم السكاني والمساحي ما زالت مصارف سيولها غير فعّالة بالشكل الأمثل والأرقى والأحسن. إن مما يؤسف له أن المليارات التي تم صبّها لتصريف هذه السيول وهذه المياه والتي تكفي لإنشاء أفضل تصريف سيول في اعالم لم تجد طريقها أبداً لتصريف هذه السيول وهذه المياه، بل تركت الناس يغرقون في شبر ماء! إنني أتساءل لماذا في الرياض عندما يجيء أدنى مطر لا يكون المشهد غريباً سوى في لهجة الكلام وحدود الدهشة والخيال والاستغراب والاستفهام؟!