قطرات المطر الخفيفة تتساقط وأنا مسافر بسيارتي أجوب (الشمال) من جديد، شارداً في محطة أفكاري لا أعرف إلى أين؟ الشوق والرغبة والأحلام تكاملت كلها لدي لتشكل بهاء هذه الطقس الشمالي البارد، وأزداد الشوق إلى أن أتدفأ بحنين عذب شفاف يجعلني أشعر بالحياة أكثر..
البرد يأكل مني دفئي كالنار التي تأكل الحطب، تركت مخيلتي تكبر، وأفكاري تجوب، والماضي يعود، (الشمال) يظل في نظري إمبراطورية للحب، الحب الذي لا ينتهي والمفتوح على مصراعيه، مراراً كثيرة شعرت بالوحدة الباردة، كالموت يتسلل إلى جسدي خفية، عندما تهاجمني هذه الوحدة أحزم حقائبي وأتوجه للشمال، الليل يهبط عليّ في الطريق إلى الشمال، كان قاسيا جدا يشبه قساوة البرد الذي حل في جسدي وأناخ، هذا الليل الذي غمرني ببرده القارص شعرت به كقطعة ثلج متجمدة، ليل الشمال ببرده المخيف جعلني مراراً أغمض عينيّ في سكونه وأطير بروحي وأتمدد كريشة ملساء، هناك في مدن الشمال كثيرا ما سرت في شوارعها، وشاركت أعراسها، وعشقت أسواقها المكتظة برائحة الطفولة العذبة، كل شيء في مدن الشمال يجبرك على الحب والحياة، حتى العصافير هناك فرحة بين أغصان الحدائق تلوذ بها ترقص وتغني، لمدن الشمال عندي شوق ولهفة أجدد بها جسدي وروحي لتعود إلي الحياة والحقيقة، وتعود إلي قطعي المتناثرة من حولي، التي كلما حاولت أن أجمعها أخفق بالعثور على بعض منها! كلما تقدمت نحو الشمال أشعر بأنني أزهو لأن الدم يتدفق إلى كل مكان في جسدي، أشعر رغم البرد القارص ببراكين وحمم تثور في كل أطرافي حتى أناملي وكأنها تعزف لحناً جميلاً، أهو الحب؟ أهو الأمل؟ أم ذلك البريق في مساءات يتوه فيها المرء وهو يبحث عن بصيص أمل في عتمة حالكة، في الشمال أستعيد الذكريات الجميلة وتقتحمني أمواج صغيرة من الذكريات الحزينة، في شوارع المدن الشمالية الباردة جداً أقود سيارتي، لكنني أحس روحي كفراشة تكسرت أجنحتها من ذرات المطر التي لا تنتهي، في داخلي أنين ينبع من الصميم يقول لي عش عش هذه اللحظة ولا تبالي، أعرف مسبقا أن اللحظات السعيدة زهور صغيرة تموت على حافة الطرقات، كيف وأنا أتحدث عن أشياء بسيطة أمتلكها في عالمي الذي أنتمي إليه والذي أعود إليه بين فينة وأخرى وأسبح في بحيراته الصافية العذبة، في البعد المقابل عصفوران تائهان على أغصان شجرة يرفرفان بأجنحتهما تارة من شدة الفرح، وتارة يخبئان أجنحتهما تحت أغصان تلك الشجرة، عبر نافذة السيارة التي أقودها تأخذني نظرات خاطفة لأنظر إلى السماء، كان منظرا أكثر من رائع، غيوم رمادية متراكمة تشبه لوحة سريالية جاذبة، أحيانا تختفي تلك الغيوم وسرعان ما تعود لتدهشني بروعة هذا الخالق الذي أبدع في كل رسم الكون وأعطانا البهاء، أشعر بأن لدي طاقة للحاة، لأشياء كثيرة لا حصر لها، يصعب علي أن القي على جسد الكلمات ثيابا ترمز لمعانيها، إنها تشبه تلك الأفلام التي يعدو فيه الذئب من أعالي الجبال ويتواجه مع القطيع وجها لوجه، ويفتح فمه معبراً على ما في داخله من طاقة كبيرة فتهرع قطعان المواشي للبحث عن مخبئ لجسدها الضعيف، عندما أرى مدن الشمال تتجدد الدنيا في عينيّ وتكبر الشمس لتنير هذا العالم من حولي وتنمو الأزهار على أطراف الجسد، مدن الشمال عندي خرائط على طاولتي، ومفردات بين أناملي، وروايات حب على صفحات جديد بيضاء، وكنوز مدفونة، وعطر جديد يضاف إلى سلسلة عطوري، ومعطف يكنزني بالدفء، أوقف سيارتي على حافة الطريق الطويل المؤدي للشمال، الطريق شبه خالٍ في ساعات الليل المتأخرة، أمسكت كلتا يدي وضغطت عليهما بقوة، إنهما يشبهان الثلج! لا أعرف لكنني أعاني من هذا البرد المخيف، البرد يلتصق حتى في بؤبؤ عينيّ، قدت سيارتي من جديد، كم هو رائع أن تقود سيارتك في طريق لا ينتهي وتشعر أنك تملك هذا الطريق وتحضنه، لمدن الشمال رائحة ممزوجة بأحلام ملفوفة بعبق الماضي الذي يلعق الجسد، هذه المدن تشعر أنك تملكها، وتضمها إلى جسدك المنهك، في رحلتي إلى مدن الشمال مرت بي أشياء وأشياء أصبحت تحفيات في ذاكرتي الشرسة، لكن لها رائحة كرائحة التفاح وحقل الحنطة وحديقة الزهر ولون الماء.