الشمس تختفي بسرعة؛ إذ قبل لحظات كانت ترسل بأشعتها الخفيفة من خلال غيمات داكنة، أما الآن فقد اختفت تماماً، وطفق البرد يمخر تفاصيل الجسد بكل صلف. البرد لاذع جداً في الشمال، حتى أنني لا أستطيع وصفه وتقييمه. وضعت كلتا يدي بكمي من شدة البرد، ثم أرسلت نظراتي في أحشاء البرية، علَّ نظراتي تكتحل ببياض الثلج الذي غطى فضاء البرية الواسع. أرض البرية يتراقص بريقها. الثلج يعكس كل شيء، وكلما ركّزت عيناي بالبُعد غامت الرؤية، وتداخلت الأشياء، وأضحى الأفق أبيض. خيِّل لي أني أسمع دوياً عن بُعد، ربما هو دوي الأرض إذ تتمطى جزعة من البرد الذي لا يرحم، وربما هو فحيح الهواء الثالج إذ يلامس الأرض. الريح الباردة تتدحرج على أديم الأرض المنسرحة على المدى، فتدحرج قطع الثلج، التي تشققت من بعضها بعضاً، كأن يداً حنونة تمسح عن وجه الثلج المتجدر والمتشققة نتوءاته، فتعيده أملس منبسطاً. اللون الأبيض يجمِّل الأرض المجدوبة. ما بيننا وبين (طريف) تلك المدينة العابقة بالريح والثلج والبرد سوى مسار نصف ساعة، لكننا وسط هذا البرد القارس نحس بأننا في عالم آخر. لحظتها قال لي صديقي الذي يهذي من شدة البرد “متى نصل للبيوت المسقوفة لكي يسكننا الدفء؟”. عندها تراءت لنا (طريف) الصغيرة كصبية ذات السبعة عشر، الهادئة لحد التخثر، المتململة لحد الهيجان. صغيرة هي (طريف) كحضن الأم، واسعة وكبيرة كالحلم. دفتر واحد يكفي لتدوين أسماء أهل (طريف) كلهم، لكن كل دفاتر الدنيا لا تكفي لتضع مفردة وصف كامل لهذه المدينة الشمالية الفاتنة، عندما أنشغل بسحر طريف وحسنها. أي شيء هذا الذي كلما توهمت أني عرفته فوجئت بأني ما زلت في الكلمة الأولى، في السطر الأول، في الصفحة الأولى، في الكتاب الأول من سفر طريف المدهشة، السهلة والممتعة، البسيطة والمركبة، المفهومة كالبداهة للوهلة الأولى، والعصية على الفهم والإدراك كلما توغلت في حشاياها وثناياها، ماضياً وحاضراً، وربما مستقبلاً. قُيِّض لي السفر إلى العديد من المدن داخل بلادنا العامرة، لكن هذه المدينة الوادعة والقابعة في أقصى الشمال الوحيدة التي لم أشعر فيها بأني وحيد أو غريب، ليس هذا بسبب الأرض؛ فالأرض هي الأرض، ولا الناس؛ فالناس هم الناس، لكنني أعجز عن توضيح ما يستوجب الإيضاح؛ في هذه المدينة الشمالية الصغيرة شيء ما لا أستطيع اقتناصه، ولأنني لا أستطيع اقتناصه فإنني لا أستطيع توصيفه، ربما أحوّم حوله، لكننأعجز عن الوصول إلى جوهره أو حقيقته؛ ربما أحتاج إلى أحاسيس أخرى لم أوهبها، أو ربما لوعي لم أمتلكه بعد؛ كي أكون على مشارف اجتلائه ومعرفة كنهه.. شيء أعتقد به، لكنني غير قادر على وصفه، فهل يلومني أحد؟
انتابني هذا الشعور بقصور الوعي عندما كنتُ أستمع إلى الراعي الآسيوي القادم من بلاد الماء وهو يحدثني بشغف كتوصيف شاعر عن هذه المدينة الشمالية وأهلها، التي أحبها، والتي عاش فيها زهاء العشرين عاماً. قال لي “لقد ورثت من أهلها الحب والصدق والشفافية.. هم بسيطون، وواضحون، وينضحون بالطيبة المتناهية”. قال لي كلاماً سهلاً وبسيطاً، ثم لوّح لي بيده مودعاً، وغادر يسوق غنمه إلى الفج المقابل.
(طريف) مدينة شمالية صغيرة، يترعرع فيها دفء المواقد وسقي دلال القهوة وأباريق الشاي. طريف كانت لا تتجاوز سبعين داراً، لكنها الآن اهتزت وربت وأنبتت من مختلف حقول الإبداع الإنساني والعمراني شيئاً طيباً مستساغاً. (طريف) مدينة انبثقت براعمها، وصارت تكبر وتميل بأغصانها نحو الضوء حالمة باتجاه التطاول. (طريف) مدينة تنسج من خيوط الحياة الكثير؛ لتقهر التراب والرمل، وتحيلهما إلى عناقيد ضوء وحبات لؤلؤ. (طريف) مدينة فرح وضياء وثلج وغيم وبرد. (طريف) المدينة الأميرة التي تهيج في شبق الهوى بشعرها الصحراوي المتطاير على أجنحة الرياح نحو الآماد اللامتناهية. (طريف) المدينة التي تغريني بجسدها الصحراوي الملتهب بدفء أديمها لأحتضنها مطوقاً خصرها بذراعين معطرين بالشيح والقيصوم والعرعر. (طريف) مدينة الرمل التي أبدعها الخالق، واختارها لتمد سيلاً من الضياء بين مفاصلها الحسناء. هي الآن ترفل بثوب زفافها الثلجي الأبيض كعروس فاتنة.
(ياه).. كم هي مدينة زاهية.