المشكلة التي لا يُرصد تشخيصها من فم صاحبها تبقى مُعلقة.. وإن شُكلت لدراستها مليون لجنة وتريلون خبير.. سيبقى الحل أعرج في أحسن أحواله.. وأذكى الأذكياء من ينقل صاحب المشكلة من طور الشكوى والتوجع والاستجداء.. إلى طور الحلول الممكنة والمقترحة.. ففيها سر المعالجة الأسرع والأكثر اختصاراً.
وهنا تتجلى عبقرية إرخاء السمع لأهل الحاجة.. عندما تمنحهم وقتك.. فتكسب المعلومات على طبق الواقعية دون الدخول في فوضى التنجيم ومنهج البعدين عن الميدان.. إذ إن المستشار الناجح هو الوحيد الذي يجعل الآخرين يصلون به إلى الحل الأمثل دون أن يدركوا ذلك.. فهم يلقون بقطع الأحجية ويبعثرونها.. وهو يتكفل بفرز القطع الأهم أمامهم.. ولأنهم الأعلم بالصورة الحقيقية التي سيجمعون القطع على ضوئها حتماً يكتمل العمل.. بين مستشار يعرف ما الأسئلة الذكية التي تطرح.. وبين عقول خرجت من ظلمة الشكوى إلى فجر الحلول والحوار.. فالسؤال هو الأهم والأكثر صعوبة.. وما أكثر ما تتعثر الحياة ببشر ضيعوا طاقاتهم في تساؤلات لم تتعد اجترار الأحزان وشرح الألم.. والاستماتة في البحث عن مشجب يعلقون عليه مسؤولية ما حدث ويحدث.. ليغيب الحل بين تقاذف المسؤوليات.. ويبقى كل شيء ليراوح مكانه.
أراهن على علو نجم المسؤول الذي يبحث في خفايا الميدان.. تلك الدهاليز التي تخفي الكثير من الأسرار.. ولا يعنيه مصدر الصوت من يكون.. إنما الفكرة التي ترجمتها الاقتراحات والأفكار.
إنه يدير المكان وبيده اليمنى كم هائل من المعلومات.. أعظم مصادر القوة في أي زمان وكل مكان وتحت أي ظرف وأمام أي تحدٍّ.. وفي شِماله قرارات منطقية بنيت على أسس متينة من قلب الحدث.. وليس على توجسات وتوقعات وخرافات.
من يظن أنه من خلف مكتبه سيعرف ماذا يحدث في وزارته.. أو إدارته.. أو بيته.. فهو واهم بلا شك.. ولن يصله إلا ما يخدم مصالح المنتهزين.. والنصابين.. واللصوص.. والمنتفعين من تغييب قيادتهم عن سرقاتهم وتقصيرهم وكسلهم.. ولسوف يقطعون طريق الشرفاء والمخلصين إن حاولوا إيصال أصواتهم إلى أن تتلاشى.. وحتماً لن تحين اليقظة إلا على فاجعة.. كما يحكي الواقع عن نفسه مراراً وتكراراً.
ولا عذر لمن قبل المنصب.. فهو نَصَب ووصب.. وليس وسادة حرير لأحلام اليقظة والوجاهة.