لم يكن بينهم وبين مرضاهم مواعيد حين الضرورة..
الدرب إليهم سالك في العيادة, والبيت, وعن الهاتف..
في الليل والنهار..
السادة النبلاء كانت تتوجَّع قلوبهم مع توجُّع أجساد مرضاهم..
حتى الدواء يقدمونه بأريحية الكريم إن كان متاحاً في خزانة عياداتهم..
مرضاهم المعوزون يعالجون عندهم دون مقابل..
وبسهولة، ويسر كنتَ تجد عياداتهم تكتظ بالمرضى، وكل مريض يأخذ حقه من الرعاية.. ولا يحمل همّ النفقات.., ولا التأخير, ولا المتطلبات..
كانت تنتشر العيادات الخاصة تستقطب بنبلهم فئات المرضى، حين كانت بعض الأحياء الكبيرة تمتع بوجود «متوصف» حكومي قد لا يستوعب كل الحالات..
الناس كانت تتعامل مع الطبيب الإنسان، أكثر مما كانت تتعامل مع الطبيب المعالج..,
والآلام تُبلسمها بشاشته، وعنايته أكثر مما يُبلسمها تشخيصه، وأدويته..
تبدَّلت العيادات الخاصة في المجمل الراهن لمراكز طبية، داخلها عيادات, الوصول فيها للطبيب عبر إجراءات طويلة، المحاسبة المالية أول المستقبلين، والطبيب آخرها.. أقسام المختبر، والأشِّعات، والقياسات، وتسجيل التاريخ الطبي, وانتظار الدور, وإحالات الطبيب الصامت كثيراً, والمقتضب حديثه غالباً هي آخر من يستقبل المريض..
تبدَّلت تلك العلاقة الإنسانية إلى علاقة مادية.. بين المريض, وصاحب المكان, والطبيب المشارك في الربح.., شأن كل التبدلات التي يعايشها الإنسان..
السادة النبلاء تقلّصوا كثيراً.. كثيراً وضاعوا في الزحام..
بينما هناك حيث كانت عياداتهم تُوقظ حركة الشارع, والعمائر, ودروب الاتجاهات..
وحيث كانت أرواحهم تُدفئ صقيع المرض، والحاجة، والطارئ, وصوت الألم، وشهقة الوجع.. عمَّ الصمت..
فلن يجد المريض طبيباً في آخر الليل يركض إليه بحذاء المنزل.., ولا يطوي كشف العلاج في جيبه دون أن يتقاضى قيمته..
المريض الآن يفكر عشرات المرات قبل أن يعلن عن وجعه..,
فالواجبات التي تتقدم توجهه لطبيب ما يحتاج إليه تتطلّب منه معابر طويلة قبل أن يصل..
وحين يصل، يصل وهو منهك بالطريق إلى الطبيب أكثر مما هو منهك بمرضه..
السادة النلاء ذهبوا،..
تركوا المريض في معمعة تجارة التطبيب..!
فالندرة ليست قابلة للقياس..!!