مع المحن تأتي المنح، ومع الشدة يأتي الفرج، ولابد من يسر يعقب العسر، وأي منحة أعظم من التفقه في الدين وتدبر كتاب الله - عزوجل-، فلو أنفق الإنسان كل ما يملك لما أوفى حق هذه النعمة التي أكرمه الله بها، فالفقه في الدين نعمة كبيرة، بل هي ميزة خاصة، فالدنيا يعطيها الله من يحب، ومن لا يحب، في حين أن الفقه في الدين لا يعطيه الله إلا من أحب.
أحد السجناء كان من رجال الأعمال، وكان لديه مؤسسة تجارية صناعية، وفتح فيها مساهمة فتراكمت عليه الديون، وعجز عن سدادها لم يكن يحمل مؤهلاً دراسياً، فهو لم يتجاوز المرحلة الابتدائية، دخل السجن، وقد كان مفلساً مادياً وعلمياً، ولكنه لم يكن مفلساً معنوياً، ولم يدب اليأس في قلبه ولم يعتبر السجن نهاية المطاف، بل استفاد من هذه المحنة، وقلبها بتوفيق الله ثم العزيمة والإدارة والإصرار إلى نقلة نوعية من الحياة العامية إلى حياة علمية وعملية، بل وإنتاج مجموعة من الأعمال التجارية والخيرية من داخل السجن، وقبل هذا التفاؤل بما عند الله - عزوجل -، والتصميم على سداد الالتزامات والحقوق التي في ذمته للغير.
يقول هذا السجين في حديث أجرته معه مجلة (الإصلاح) الصادرة عن المديرية العامة للسجون: كانت علاقتي بالكتاب قبل دخولي السجن 0% لم أقرأ ولا كتاباً خلال (28) عاماً تقريباً، وبعد دخولي السجن دخلت عالم القراءة من أوسع أبوابه، وشرعت في تغذية عقلي بجميع العلوم النافعة الدينية والدنيوية، وقد أنهيت بفضل الله مشاريع خيرية منها مشروع لجنة إعتاق الرقاب للجهات الإلكترونية، ثم مشروع علمي كبير هو (مصحف التدبر) ، والهدف منه تبصرة الناس لما في كتاب الله الكريم، وملخص ذلك بوضع عناوين للآيات موضوعية لتسهيل فهمها على عامة القراء فتكون سبباً لفتح عيون الغافلين وتنشرح به صدور المؤمنين ، وقد عرض المشروع على نخبة من المتخصصين في علوم القرآن وأجازوه ووجهوا لي بعض الملحوظات واستفدت منها وعلى ضوء ذلك تم فسحه من وزارة الثقافة والإعلام.
الهمة العالية لهذا السجين لم تقف عند حدود الأوراق التي كتبها بل تعدى ذلك لمرحلة أخرى للسعي في نشر هذا المشروع وطباعته وترجمة المعاني والعناوين بعدة لغات وهو يعمل حالياً لمخاطبة الجهات المختصة في العالم الإسلامي والمعنية بطباعة المصحف الشريف وتراجم معاني القرآن الكريم والتفاسير لنشر هذا المنتج.
والسؤال الذي يدور في أذهان القراء الأفاضل وقد دار في ذهني أيضاً أجاب عنه صاحب الموضوع في سؤال وجه إليه «إنك تحمل شهادة خامس ابتدائي، فكيف أقدمت على هذا العمل الكبير وأنت لم تحصل على شهادة علمية»؟
فكان جوابه التالي : نصاً: (أولاً أذكرك بقول الله عز وجل: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } (78 سورة النحل)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (54 سورة المائدة)، فلم يقرن الله عزوجل أعمال الدين والدنيا بالحصول على الشهادات الأكاديمية، وإنما بالتعلم وبذل الأسباب، ولذلك كرر الله - عزوجل - في سورة الكهف فعل الأسباب أربع مرات من أجل أن يعقل الإنسان الأسباب تلو الأسباب حتى يصل إلى مبتغاه بإذن الله.
هذه التجربة العملية في الإصرار والعزيمة وعدم اليأس رغبت في نقلها لكم، لأن البعض - ومع أول عثرة في حياته العلمية أو العملية - يعتبرها نهاية المطاف، ويرى أنها سقطة لا قيام بعدها، وهذا غير صحيح، فكم من متعثر في أول الطريق استفاد من هذا الفشل الأول وحقق النجاح بامتياز، ولم يعلق خطأه وفشله على القدر والحظ أو على الناس.
يقول الشاعر:
هذه كبوة وقد يكبو الهمام
خطوة للخلف عشر للأمام