استبشر الكثيرون بتعيين سمو الأمير خالد الفيصل وزيراً للتربية والتعليم في المملكة. السبب أنّ هناك شبه إجماع على أنّ التعليم في المملكة يحتاج إلى إصلاحات جذرية، بعد أن وصل من حيث المقررات وتدني مستوى المعلمين والإداريين، وكذلك المقرات والمباني ناهيك عن النشاطات غير الصفية (المريبة) التي يمارسها بعض المعلمين لأدلجة طلابهم خارج المقررات، إلى درجة لم يكن بالإمكان السكوت عنها والمجاملة حيالها . الأمير خالد - دون أية مجاملات - هو خير من تُسند إليه مهمة حساسة ومحورية في العملية التنموية كهذه المهمة؛ فهذا الرجل عُرف من خلال تجاربه الوظيفية والمناصب التي تولاها أنه صارم، وقوي الشخصية وشديد المراس؛ أَنِفَاً أَبيّا؛ يعرف ما يريد، و لا يقبل المهادنة أو التراخي مع ما يعترض طريقه من عقبات وعوائق؛ فضلاً عَمّا حباه الله من (كاريزما) وهيبة أصبحت من أهم ما يتصف بها سموه خلال مسيرته العملية. ولعل ما أنجزه عندما تولّى أمارة منطقة مكة المكرمة من إنجازات ضخمة ومشهودة خلال فترة وجيزة وبالأرقام، تُؤكد ما أقول.
لا خلاف على أنّ المسؤولية جسيمة وضخمة، والقضايا التي سيتصدى لها شائكة ومُعقّدة، وكذلك (مُتراكمة) على مدى عقود؛ وغني عن القول إنّ بناء الإنسان يبدأ من التربية والتعليم أولاً؛ فكل التجارب التنموية، سواء تلك التي فشلت فشلاً ذريعاً حولنا، أو التي نجحت وحوّلت الإنسان إلى مصدر إبداع وتفوُّق، كما هي تجارب دول الشرق الأقصى مثلاً ، كان محورها وأس منطلقها هو التعليم.
كوريا الجنوبية - مثلاً - هي الآن ثالث أقوى اقتصاد في آسيا، ومن الدول العشر الأكبر اقتصادياً على مستوى العالم، رغم أنها لا تملك أية موارد طبيعية سوى الإنسان والإنسان فقط . هذه الدولة كانت في بدايات الستينيات من العقد الماضي ثالث أفقر اقتصاد في القارة الآسيوية؛ وخلال عقود أربعة، بنت من خلالها (الإنسان) ومهدت له سُبل التفوق والإبداع، فحققت معجزة اقتصادية بكل ما تعنيه الكلمة من مدلولات. التربية والتعليم في كوريا كان حجر الأساس والمرتكز الأول الذي ارتكز عليه المخططون الكوريون عندما بدؤوا في تنميتهم، حتى أصبحت اليوم مثالاً يُحتذى لكل الدول الطموحة للتخلص من قاع التخلف والالتحاق بالعالم المتطور . والتجربة التربوية والتعليمية في كوريا الجنوبية هي تجربة متميزة وفريدة؛ استفادت من الغرب علمياً وتقنياً وكرّست الهوية الوطنية في ذات الوقت.
ولأنّ الأرقام هي المؤشرات الحقيقية على هذا النجاح (المُبهر) لهذه الدولة التي لا تملك إلاّ سواعد أبنائها، فسوف أستعرض هنا بعضاً من هذه الأرقام التي تؤكد ما أقول، وتُثبت أنّ الإنسان إذا (تعلّم صح) حقق لنفسه الرخاء المستمر، وقاد وطنه إلى مُقدمة الأمم.
ابتدأت التنمية في كوريا الجنوبية عام 1962 . وخلال عقود أربعة (فقط) زاد الدخل الإجمالي الكوري من مليارين وثلاثمائة مليون دولار عام 1962 إلى 477 مليار دولار علام 2005، ليستمر النمو حتى وصل عام 2012 إلى تريليون و150 مليار .. كما ارتفع نصيب دخل الفرد من 87 دولاراً عام 1962 ليصل عام 2013 إلى 22700 دولار .
هذا الدخل والنمو المطرد حققه الإنسان الكوري الجنوبي دون أن يكون في بلاده أية موارد طبيعية؛ فكل ما يحتاجه من المواد الخام أو المواد الوسيطة للتصنيع كان يستورده من الخارج؛ أي أنّ هذا النجاح الباهر للتجربة الكورية كان مرتكزه الأساس (الإنسان)، والفضل فيها يعود إلى المنظومة التعليمية المتميّزة والناجحة والتي جعلت الإنسان الكوري يعيش كل هذا الرفاه والتقدم.
ونحن - يا سمو الأمير - لسنا في حاجة إلى اختراع العجلة من جديد، فلماذا لا نستفيد من التجربة التعليمية الكورية ونعيد توطينها في بلادنا؛ ونقيم مع كوريا الجنوبية (اتفاقيات تعاون) يتولى الخبراء الكوريون بموجبها نقل تجربتهم التعليمية والتربوية إلينا؛ ونتخلص من تراث (المؤدلجين) العرب الذين لم نَجنِ منهم ومما بذروه في مقرراتنا التعليمية، بل وثقافتنا، على مدى عقود، إلا التخلف والتكلس وأدلجة أذهان أبنائنا .
إلى اللقاء ..